د. حلمي محمد القاعود
في ليلة صيف من ليالي الحر الفجائية التي تختم شهر مايو الحالي؛ رأيت فيما يرى النائم مشهداً غريباً تحوّل فيه وزير داخلية بلادنا – كما ينسب إلى أجهزته – من قامع للحريات، مطارد للأحرار، مداهم للبيوت والمؤسسات، معادٍ للتظاهرات والاحتجاجات، مطلق للرصاص الحي والخرطوش، مفجر للغازات ومفرق الجماعات، خاطف للشباب ومصفّيهم في الصحراء، محرك بصاصي الصحافة وكذابي الفضائيات للتغطية على أفعاله وممارساته.. إلى معارض صُلب، لا يتنازل عن الحرية والديمقراطية، ولا يفرّط في حقوق الإنسان والحيوان، ويعتقد بكرامة المواطن وآدميته، مؤمن أن التظاهر السلمي خير وسيلة للقضاء على الإرهاب الحقيقي والمصطنع، وأن الاختلاف بين البشر حق وسُنة الله في خلقه، وأن الإسلام ليس خطراً على مصر وشعبها، بل هو مفخرة لها، وتاج على رأسها بين العالمين، وأن ما يقوم به جهاز أمن الدولة من استئصال للإسلام ضرره أكبر من نفعه، لأن مصر المسلمة هي ما بقي لمصر بعد ستين عاماً من الخيبة والفشل والهزائم المروعة وحكم الفرد البائس والفرعون الظالم، ثم إنه يؤمن أن أكبر الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن البائس التعيس هي تمكين هذا الجهاز من حكم مصر والتمكن من رقاب المواطنين، وقيادة عملية الإدارة والإنتاج على أساس الولاء للجالس على الكرسي وليس الولاء للوطن، فأصبح التعليم والصناعة الزراعة والصحة والكهرباء والمياه والصرف الصحي والتموين والشباب والرياضة والمحليات والجامعات والاتصالات والمواصلات والمرور والطيران والشركات العامة والسياحة والثقافة والصحافة والإعلام والنقابات والجمعيات والمجالس القومية وأندية الكرة والأحزاب الكرتونية واليسارية.. وغير ذلك من مرافق المجتمع وأدواته مرهونة بسلطة أمن الدولة ورضاها وسخطها، وليست متصلة بخدمة الوطن وإفادته، فضلاً عن ممارسة قمع المواطنين وقهرهم وتعذيبهم ليتحقق الأمن ويستتب من وجهة نظره.
حلّت روح الوزير في جسد والد الطالب إسلام صلاح عطيتو بهندسة عين شمس الذي اعتقل من داخل الجامعة وتمت تصفيته تعذيباً وقتلاً، وألقيت جثته في الصحراء، ثار الوزير الوالد من أجل ابنه الذي تفاخر به الأمة في ذكائه وتفوقه، وفي جنازته كان نحيبه يرتفع إلى عنان السماء، واهتزت الجموع وهو يصيح بعزم قوته ملتاعاً:
– آه يا ضنايا.. قتلوك يا ضنايا.. قتلوك يا ضنايا!
وتردد جماهير المشيعين التي تشبه الألتراس في إيقاع حزين: “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله”، ويتكرر الهتاف، والجنازة تمضي على الطريق نحو المغيب!
رأيت الوزير الذي صار والداً لإسلام صلاح يستنكر ما قامت به الصحف الأمنية للتغطية على الحادث البشع ونشرها لتصريح مسؤول بالكلية ينفي فيه اعتقال الطالب في أثناء الامتحان، ويبرئ الأمن، ويستشهد بكاميرات المراقبة التي رصدت خروج الطالب برفقة زملائه، بينما أعلن أمن الانقلاب مقتل إسلام في مطاردة قوات الأمن له لاتهامه بقتل رئيس مباحث قسم المطرية، العقيد تامر طاحون!
روع صوت الوزير الوالد مشاعر المشيعين وهو يصيح ثانية:
– آه يا ضنايا.. قتلوك يا ضنايا.. قتلوك يا ضنايا!
وتهتف جماهير المشيعين وتردد: “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله”!
كما يستنكر الوزير الذي صار والداً تصفية المعارضين للانقلاب منذ توليه حقيبة الداخلية بحكومة الانقلاب، وقد بلغت حالات التصفية أكثر من عشر حالات، حيث تقوم قوات الأمن في أغلبها بتصوير الجثث وجوارها أسلحة، فيما تسارع وسائل الإعلام الانقلابي بنشر سيناريو المطاردات والمواجهات المسلحة بين الطرفين، التي تنتهي دائماً بقتل الطرف المعارض الذي تصفيه الداخلية خارج إطار القانون، ولا يخدش جندي واحد بخدش صغير من الطرف المتهم بالمقاومة.
هذا ما تكرر بعد تصفية شابين في العمرانية، تتهمهما داخلية الأمن بمحاولة قتل قاضي حلوان، وتصفية ثلاثة شبان في قرية البصارطة بدمياط، وقبلهم سيد شعراوي في قرية ناهيا بالجيزة، وشابين في منطقة البرمكي بالفيوم، هما مؤمن حشمت أحمد (24 عاماً)، ويعمل نجاراً، وكريم حسني عويس (25 عاماً)، موظف بشركة المياه وتمت تصفيتهما بإطلاق الرصاص عليهما في أثناء سيرهما بالشارع، والمشهد نفسه في منطقة الإبراهيمية بالشرقية، حيث قتل ثلاثة شبان بحجة انفجار قنابل كانوا يزرعونها، فيما أفاد شهود عيان وكذا تقارير التشريح وجود رصاص 9 ملم من النوع الذي تستخدمه الداخلية المصرية في جثامينهم، وفي منتصف مارس الماضي تم تصفية المهندس أحمد جبر، بعد اقتحام مقر إقامته بمنطقة سيدي بشر شرق بالإسكندرية، وإطلاق الرصاص الحي عليه أمام طفليه، بينما ألقت قوات الشرطة القبض على زوجته، وفي نهاية أبريل الماضي، قتل محمد صابر العسكري، من مدينة الخانكة عقب اعتقاله أمام متجر “كارفور” في مدينة العبور، واقتيد إلى أحد المقار الأمنية، ثم أعلن الأمن مقتله لمقاومته القوة الأمنية!
كان الوزير يصرخ في نحيب يهز القلوب التي صدقت أنه والد إسلام صلاح عطيتو:
– آه يا ضنايا.. قتلوك ياضنايا.. قتلوك يا ضنايا!
تحوّل المشهد فجأة إلى ميدان التحرير، رأيت شخصاً غير واضح الملامح يقول: إنه رئيس تحرير صحيفة فرنسية اسمها “ليبراسيون”، وراح يتلو تقرير الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ويتهم قوات الأمن المصرية باستخدام العنف الجنسي ضد المعارضين، ويؤكد قول الصحيفة: إن الاعتداء الجنسي والاغتصاب زاد بشكل كبير مذ تولى الجيش مقاليد الحكم في يوليو 2013م، إذ وقعت 186 سيدة ضحية لهذه الأفعال، وفق تقرير المنظمة، ويشير إلى أن العنف يرتكب من قبل أفراد الشرطة أو المليشيات المؤجرة من عملاء المخابرات والأمن الوطني، ويضيف: إن أعمال العنف هذه لم تستهدف النساء فقط، بل تستهدف ضحايا من جماعة الإخوان المسلمين، وطلاب، وأطفال، وكل من تقبض عليه قوات الأمن، ويذكر أن التحرش والاغتصاب يقعان في السجون أو في مراكز الاحتجاز.
ازرقت السماء وسطعت الشمس، ورأيت رأسي تتجه نحو الأفق البعيد ورأيت صحفي “ليبراسيون” يتحول إلى كيان رمادي ضخم يتصاعد نحو الأعلى ثم يبدأ في التلاشي ويذوب رويداً رويداً، ووجدت من يوقظني ليخبرني أن حماة الديار المفترضين من الملثّمين المسلّحين؛ قبضوا على مجموعة من الشباب الغلابة في قريتنا واستخدموا حجراً ضخماً ليكسروا به باب بيت أحدهم من أجل أن يفتحوه!
تذكرت ما فعلوه في بيتي حين استباحوه وأسروا ابنيّ، وكسروا أبواب الشقق بلا هوادة ولا رحمة!
الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!