الأسس جمع أساس، وهو قاعدة البناء التي يقام عليها، وأصل كل شيء، ومبدؤه، ومنه أساس الفكرة، وأساس البحث (القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، مادة أسس).
لقد نجح حوار الحضارات في كسر حاجز المجافاة بين المسلمين والنصارى واليهود، فقد أتاح الفرصة لمزيد من التقارب في كثير من وجهات النظر المتعلقة بحياة البشرية العامة وقيمهم الإنسانية، كنصرة الحق والمظلوم، والتعايش السلمي بين الشعوب، واستطاعت مؤتمرات الحوار إقامة علاقات تفاهم وتعاون بين رجالاتها وعلمائها خاصة في مناصرة المثل والقيم الإنسانية التي يتوافقان عليها، كالحوار حول السلام العالمي والتعايش بين الأمم ومكافحة الشذوذ ومعالجة قضايا الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري.
فالأصل في حوار الحضارات هو التحاور والتواصل والتعاون على الخير، وهذه الأصالة للتعاون تتأسس وتستند إلى عدد من الأسس المشتركة، والواقع المرير اليوم يجعل الصراع الحضاري يتجاهل القواسم المشتركة بين كل الحضارات ويحاول إغلاق منابع التعاون وتقويض أسس التلاقي، لذلك يكون من المهم التذكير بهذه الأسس وتقديم نماذج منها:
الأساس الأول: الإيمان بوحدة أصل البشر، وأنهم متساوون في الإنسانية, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء)، وأنهم مكرمون على غيرهم من المخلوقات، كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70}) (الإسراء) (نداء مكة المكرمة، المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار، ص 580، من إصدارات رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة).
الأساس الثاني: عمارة الأرض؛ وهو عمل يشترك فيه الناس جميعاً على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، فقد خلق الله آدم عليه السلام، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)، ودعاهم تبارك وتعالى إلى التمسك بهديه الذي أرسل به أنبياءه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38}) (البقرة).
الأساس الثالث: الاعتراف بالآخر وحقوقه، وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وإيجاد السّبل الكفيلة بتحقيق ذلك بما يساعد على العيش بسلام وأمن وطمأنينة، ويحفظ الإنسان من أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر؛ لهذا أمر الإسلام بالحوار والدّعوة إليه بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة، والطّرق السليمة في مخاطبة الآخر، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125}) (النحل).
الأساس الرابع: التعاون على الخير، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)؛ فالتّعاون على الحقّ والنّصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس: “إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له” (القرطبي، أبو عبدالله، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 12/341، الطبعة الثانية، دار الشعب، القاهرة: 1372هـ)، وكذلك المحافظة على البيئة ومكافحة الإرهاب ودعم الشعوب المتضررة من الكوارث والأمراض والاضطهاد العرقي والطائفي، والوقوف ضد الانحلال الأخلاقي والتفسخ الاجتماعي.
لقد أدركت الأمم والشعوب والدول الحديثة حقيقة هذا الأمر فسعت من أجل التعاون على تحقيق هذه الأهداف إلى تشكيل كيانات دولية كبرى، رغم ما كان بينها من نزاعات وحروب أزلية، إلا أنها توحدت في كل شيء من مناحي العامة لتحقق الأمن والاستقرار لمجتمعاتها، وهو ما أصبح بعد ذلك شائعاً في شرق الأرض وغربها، بينما لا تزال بعض الدول الإسلامية تقبع في مكانها ولا ترنو إلى تكوين وحدة إسلامية بينها على غرار هذه الاتحادات الدولية.
الأساس الخامس: التعارف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات)؛ فالتعارف لا ينهض إلا على أرضية الاحترام المتبادل، وما أحوجنا إليه في عالمنا. ولو توافر الاحترام بين الناس؛ لما دخلت الأمم في صراعات وأزمات نحن في غنى عنها، ولبقية الشعوب متآلفة متجانسة لا يعتدي بعضهم على بعض، ولا تفتعل الأزمات كما هو حاصل هذه الأيام من التشويه والإساءة إلى الإسلام ونبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتأجيج مشاعر أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم في العالم.
الأساس السادس: الاحترام المتبادل، لكل الرسالات السماوية حق لدى الآخر في الاحترام المتبادل بينها فلا يحق لأحد أن يمتلك حق العلو على الآخرين والنظرة بدونية لهم، فالأصل البشري واحد، وعلى الجميع الالتزام بضرورة العيش في سلام عادل، واحترام متبادل، تحت مظلة نظام جامع يكفل للجميع حق العبادة.
الأساس السابع: التواصل الحضاري من أجل التعايش بين الناس، وهذا الأساس فطري في الإنسانية، فمن الفطرة الإنسانية استحسان العدل، وتقبيح الظلم، ونصرة المظلوم، واحترام فضائل الأخلاق.
والتواصل والتكامل والتعايش من العلائق التي أمر بها الدين، فكل الأديان في جوهرها تدعم الموقف الأخلاقي للإنسان، فتنشأ به معايير قيمية يحترمها الإنسان، ولا يخلو دين من قيم أخلاقية فيها مراعاة للتعايش البشري، بل تكون داعمة له، وهكذا يمكن استكشاف عناصر حماية التعايش البشري في الديانات الأخرى لتعزيز الأسس الأخلاقية للتعايش الحضاري. ولقد أدى التواصل الثقافي إلى تحسين فرص التعايش السلمي في كثير من الأحيان من خلال ما يخلقه التواصل من قواسم ومصالح مشتركة.
الأساس الثامن: المصالح المشتركة، فالمصالح المتبادلة هي أحد منابع التوافق الإنساني، فلا يستطيع أحد ما أن يعيش في عالمنا دون الاعتماد على الآخر، فأصبح الكون كله وحدة كونية، متكاملة في مواردها، فإن كان الغرب مصدراً للسلع فالشرق مستهلك لها، ومنتج لخام هذه السلع والعكس، وهذه المصالح وجه من وجوه الحوار الحضاري تفيد كل الأطراف، وقد دخل الإسلام إلى جنوب شرق آسيا عن طريق التجار وتعاملاتهم، بينما الصدام يؤدي إلى إهدار الإمكانات البشرية والمادية، وإضعاف كل من لهم علاقة به بشكل مباشر أو غير مباشر.
الأساس التاسع: العدالة، وهي الأساس في الإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتقديره، وعدم الاعتداء عليه والتقليل من قدره وشأنه، فإذا توفرت العدالة توفر عنصر الاجتماع البشري على قاعدة التعارف، الذي يحافظ على الاستقرار، ويعمق أسباب التواصل والتعاون.
إن تحقيق العدل في أي دولة في عصرنا الحديث يوجد لنا الكثير من النماذج الرائعة في التعامل، فدراسة تاريخ أي أمة سابقة يؤرخ من قيمتها في تحقيق العدل، بين مواطنيها وإنصافها للأديان التي تعيش في أرضها، وهذه المبادئ هي التي تخلق عند الإنسان القابلية والاستعداد للاعتراف بوجود أوجه التنوع المختلفة بين الأفراد والجماعات والأمم.
وأخيراً: العالمية؛ مما يشجع كذلك على الدخول في الحوار بين أتباع الأديان عالمية الإسلام وإنسانية شريعته بما تفيض به من معاني البر والعدل والرحمة للجنس البشـري برمته: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}) (الأنبياء).
المصدر: صحيفة “العالم الإسلامي”.