«قل ربي الله ثم استقم» الإسلام دين «الفطرة»، والفطرة «ملكة» و«طاقة» أودعها الله في الإنسان ليهيِّئه لقبول مبادئ ثلاثة: «التوحيد والتزكية والعمران»، و«التوحيد» حقُّ الله على خلقه، تترتَّب على صفائه ونقائه بلايين القضايا الدنيويَّة، ثم الأخرويَّة، ولو تحقق الناس بـ«حقيقة التوحيد» لبانت الفواصل بين «الألوهيَّة والربوبيَّة»، واتضحت الفوارق بينهما وبين «العبوديَّة»، ولو صفا «التوحيد» وخلص لما اضطهد إنسان إنسانًا آخرًا، ولما ظلم أحدٌ شقيقه في الآدميَّة والإنسانيَّة، ولما استلب ماله أو أرضه أو حقوقه، ولأدرك أنَّهم أكفاء لبعضهم، وكلُّهم لآدم، وآدم من تراب، وأنَّ الأرض مملوكة لله خالقها، سخَّرها –كلَّها– للأسرة البشريَّة الممتدَّة: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) (فصلت:10)، بحيث تضمن لهذه الأسرة المستخلفة فيها – جميعًا – حياة طيِّبة وخلافة صالحة لو استقامت على «طريقة التوحيد».
ولم يستعلِ بعض البشر على بعضهم فيكون هناك عالم أول مستغِلٌّ، وعالم ثانٍ يسعى للِّحاق بالعالم الأوَّل ليخرج من صفة المستغَلِّ بفتح الغين إلى صفة المستغِلِّ، فيكون من الظالمين بعد أن يتجاوز دائرة المظلومين! وعالم ثالث – أو نامٍ – يتحكَّم فيه «العالم الأول» و«الثاني».
فلو استطاعت برامجنا التعليميَّة – خاصَّة «الدينيَّة» منها – إبراز الأبعاد الحضاريَّة والعمرانيَّة لـ«توحيد» وتدريب الموحِّدين على ممارسته في نقائه وصفائه، لعاد ذلك على عالم اليوم – كلِّه – بالخير العميم، ولاختفت معظم الظواهر السلبيَّة، وأسباب الصراع العالميِّ، ولتحوَّل «التوحيد» إلى حجر الزاوية والأساس المتين الذي تُبنى عليه «ثقافة التعايش والتسامح، وقبول الآخر والتعدُّد».
أمَّا «التزكية» فهي دعامة «التنمية البشريَّة» بعد «التوحيد»؛ لأنَّها عبارة عن تنمية الإنسان بتزكية نفسه وعقله وقلبه وضميره ووجدانه وبدنه وملبسه ومسكنه الأصغر والأكبر، فبالتزكية يبلغ الإنسان الصفات المحمودة التي تهيِّؤه للوفاء بعهده مع إلهه الواحد، والقيام بالاستخلاف، وحفظ الأمانة، والنجاح في الابتلاء؛ ولذلك كان الركن الثاني من أركان رسالات النبيِّين –كافَّة– تعليم الناس ما أرسلوا به، وتزكيتهم بتربيتهم على ذلك: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {2}) (الجمعة)، وفلاح الإنسان يتوقف على طهارته التامَّة، وزكاة عقله ونفسه وقلبه ووجدانه.
فبـ«التزكية» يُصبح الإنسان مؤهَّلاً للفلاح والنجاح بأداء دوره العمرانيِّ في الأرض، وجميع أنواع الفساد التي تحدث – في الأخلاق أو في الذمم أو الموارد أو التربية أو السياسات – تأتي من نفوس لم تتزكَّ، فاستبدَّت بها المطامع والمخاوف والأمراض النفسية والشهوات، فلم تعد قادرة على الوقوف عند حدود الله، ولا الاستماع إلى صوت «الفطرة» و«العقل» و«الضمير»، والنماذج المنتشرة – اليوم – من الذين تدنَّست نفوسهم، وتلوَّثت، واستبدَّت بها أوهام العظمة والاستعلاء لا تُحصىٰ، والجشع والطمع وعبادة المال وراء كثير من الكوارث العالميَّة، مثل المجاعات ووسائل الدمار، والاتّجار بالبشر والسلاح والمخدِّرات والجنس والمسكرات والمفتِّرات، والتلاعب بـ«أقوات الشعوب وصحتها ومواردها وسلامتها»، كل ذلك يمكن ردُّه إلى خراب النفوس وفسادها، وخروجها عن فطرتها، وتجاوزها لحدود الله.
تقول بعض الإحصاءات: إنَّ مخزون «الزبد» في بريطانيا وحدها يكفي العالم كلَّه لو لم يأكل شيئًا غير الزبد لمدَّة أسبوعين، ومزارع الحبوب من ذرة وسواها في أمريكا وحدها– تكفي العالم كلَّه لو لم يتناول شيئًا غيرها لمدَّة لا تقل عن «ستين يومًا»، ولحم البقر والدجاج يكفي لمدة طويلة.. إلخ، ومع ذلك يموت يوميًّا من الأطفال الذين لا يجدون غذاء ما يتجاوز ألفًا ومائتين، «معظمهم من المسلمين» الذين تقوم الحضارة على موارد بلادهم وأراضيهم؛ لذلك فإنَّ دراسات «التنمية وخططها الشاملة أو الجزئيَّة» في حاجة ماسَّة إلى استحضار «التزكية»، وإدراجها في وسائل التكوين التنمويِّ.
والمبدأ الثالث هو «العمران» للأرض، واستثمارها لصالح البشريَّة؛ وذلك بإقامة «حضارة» لا تتنكر للقيم، بل تجعلها جزءًا لا يتجزأ من نسيجها، و«ثقافة العمران» – لتصبح جزءًا من التكوين النفسيِّ للإنسان المعاصر – تحتاج إلى جهود هائلة تتعاون وتتضامن على القيام بها كل فئات الأمَّة، وتُسخَّر لبنائها وإيجاد الوعي بها كل الموارد والطاقات. فقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {112}) (هود) هو أمر لرسول الله وأمَّته معه أن يلازموا المنهج المستقيم، وذلك بالعمل على تحقيق هذه المبادئ الثلاثة، والاستقامة عليها؛ ليقوم الناس لله بالتوحيد، وليتزكُّوا أو يتطهَّروا ويعمِّروا الأرض التي أسكنوها واستخلفوا فيها: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105}) (الأنبياء).