من الأخطاء العلمية المتلبِّسَة بثوب العقيدة الصحيحة السليمة تجريد بعض علماء السلفيَّة المعاصرة محبة النبي -صلى الله عليه وسلم – من البعد الإنساني العاطفي المتعلق بالمشاعر القلبية الرقيقة النبيلة التي تكون بين المحب ومحبوبه، وجعلها محبةً ظاهريةً حرفيةً ليس لها إلا معنى واحد وهو الطاعةُ الظاهريةُالجافة عن كلِّ المعاني القلبيةِ المطلوبة لأيّ محبةٍ إنسانية، فمحبةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم هي طاعتُهُ لا غير، فجعلوا آثار المحبة ولوازمها -وعلى رأسها الطاعة- هي المحبة ذاتها وجردوها بهذا المعنى عن أصلها الذي يعني الشوق وحرقة القلب والعلاقة العاطفية بكل ما تعنيه الكلمة بين المحب ومحبوبه، ولقد سمعتُ من أحدهم منذ خمسٍ وعشرين سنةً يقول وهو في المدينة النبوية: أنا بفضل الله في المدينة منذ ثلاث سنوات ولم أزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك على سبيل البيان لصحَّةِ عقيدته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم! وآخر يعلِّقُ على حديثِ صُلح الحديبيّة وكيف كان الصحابة يتبادرون إلى آثار وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ليمسحوا بها الوجوه والأبدان لو كنتُ مكانَهم ما فعلتُ ذلك وكأنَّه يستغرب سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا يظنُّ أنَّه غُلُو من الصحابة في إظهار محبّتهم له صلى الله عليه وسلم .
وعندما أتحدث عن المعاني العاطفيَّةِ الإنسانيَّةِ المُتعلِّقةِ بالمحبَّةِ النبويَّةِ الشريفة، فإنَّني أقصد تلك التي عبَّر عنها علي – رضي الله عنه – عندما سُئل كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
تأمَّل في هذا الوصف العاطفيّ الدقيق (ومن الماء البارد على الظمأ).
وتلك التي جاءت في قصة قتل زيد بن الدثنة.. قال ابن إسحاق: اجتمع رهطٌ من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتُحِبُّ أنَّ محمداً عندنا الآن في مكانك نضربُ عُنُقَه، وأنَّكَ في أهلك؟ قال: والله ما أُحِب أنَّ محمداً الآنَ في مكانه الذي هو فيهِ تصيبه شوكة تؤذيه، وأنّي جالسٌ في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيتُ من النَّاس أحداً يُحبُّ أحداً كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً .
وما جاء عن عائشة أنَّها قالت: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إنَّك لأَحَبُّ إليّ من نفسي، وإنَّك لأَحبُ إليّ من ولدي، وإنِّي لأكون في البيت فأذكرك فما أصبرُ حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفتُ أنَّك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وأنّي إذا دخلتُ الجنةَ خشيتُ أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل بهذه الآية {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم…} الآية“.
وما جاء عن سعد بن أبي وقاص قال: مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم – بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بأُحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا: خيراً يا أمَّ فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كلُّ مصيبةٍ بعدك جلل.
وغيرُ ذلك من النصوص التي تصعب على العد في بيان العلاقة العاطفية في أعلى قمتها الإنسانية بين الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم .
وختاماً أقول: إنّ تجريد المحبة من معانيها الإنسانية، وجعلها عملاً ظاهرياً حرفياً جامداً يابساً مجرداً عن محركاته ودوافعه الإنسانية العميقة، جعلت الكثير ممن يؤمنون بهذا التجريد يقعون في ظاهريةٍ لم يعرفها التاريخ من قبل في فهم الالتزام بالسنة والهدي الظاهر لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولذا فبعضهم من أكثر النَّاس حرصاً على الهدي الظاهر لنبينا -صلى الله عليه وسلم – وفي ذات الوقت هو من أبعد الناس عن المعاني المتعلقة بالأحوال والسلوك النبوي الباطني الشريف، فالهم والاجتهاد عندهم مُنصَبٌ على ما ظَهَرَ من السنة النبويَّة مع الإهمال الواضح للاقتداء بهديه الباطن المتعلِّقِ بالرفقِ والرحمةِ والودِّ والحرصِ على نجاة الآخرين مع لينِ ورقةِ القلبِ وسهولةِ الجانب، وغير ذلك من الخصائص النبويَّة والأحوال الشريفة له عليه الصلاة والسلام .
—
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.