مع بداية عام جديد ومجيء أمين عام جديد للأمم المتحدة تعهد بالحفاظ على الكرامة الإنسانية، وبينما العالم مشغول بمشكلات وأزمات دولية حازت على الاهتمام والمتابعة مثل الأزمة السورية بكل تعقيداتها، أو الإرهاب الذي يوجه ضرباته في دول العالم بلا استثناء، نسي الجميع مأساة لا تقل بشاعة عن غيرها بل تزيد بأنها تحدث وسط لا مبالاة تكاد تكون تامة من المجتمع الدولي، وهي مأساة مسلمي الروهينجيا في ميانمار، الذين تصنفهم الأمم المتحدة بأنهم الأقلية الدينية الأكثر اضطهاداً في العالم؛ حيث يتعرضون لشتى أنواع الاضطهاد والمضايقات، وفي مقدمتها الحرمان من حق المواطنة بموجب قانون أقرته ميانمار عام 1982م؛ إذ تعتبرهم الحكومة مهاجرين غير شرعيين من بنجلاديش رغم استقرارهم في البلاد لأجيال متتابعة، فضلاً عن حرق ونهب منازلهم والتهجير القسري لهم، للحد الذي دفع البعض لوصف ما يحدث بأنها سياسة تطهير عرقي ضد هذه الأقلية المسلمة التي يبلغ عددها مليون شخص يشكلون غالبية ولاية آراكان, رغم أنهم بشكل عام يعدون أقلية في ميانمار التي يدين معظم سكانها بالبوذية.
ومع أنه من الناحية النظرية، فإن العام الجديد قد يحمل أفقاً لحل هذه الأزمة المستحكمة بعد اللجنة التي تشكلت برئاسة كوفي عنان، سكرتير عام الأمم المتحدة الأسبق، منتصف العام الماضي، وهي اللجنة التي تشكلت بالاتفاق مع رئيسة الوزراء أونج سان سو تشي لدراسة الوضع واقتراح حلول، فإن الواقع العملي يشير لصعوبة ذلك، فكلما هدأت الأمور نسبياً عادت للاشتعال مرة أخرى ليتكرر سيناريو المأساة بكل تفاصيله، خاصة أن التحرك لمواجهة المشكلة غالباً ما يكون بطيئاً ويأتي بعد استفحالها، والدليل على ذلك الأزمة الأخيرة التي بدأت في شهر أكتوبر الماضي بعد هجمات استهدفت مراكز للشرطة في ولاية آراكان، وإثر ذلك شنت قوات الأمن حملة واسعة النطاق لملاحقة مرتكبي هذه الهجمات، ولكنها أسفرت عن مقتل العشرات وفرار 27 ألفاً من الروهينجيا إلى بنجلاديش وسط روايات عن فظاعات ارتكبت من قبل هذه القوات تشمل قتلاً وإحراق مساكن واغتصاباً جماعياً، وهو ما أنكرته حكومة ميانمار تماماً واعتبرته مجرد مزاعم لا أساس لها.
وكعادة التعامل مع قضية الروهينجيا مر شهران تقريباً قبل أن يتحرك أحد ويثير هذه القضية، وكان التحرك هذه المرة من قبل رابطة جنوب شرق آسيا (الآسيان) التي اجتمعت أواخر الشهر الماضي في العاصمة رانجون لبحث هذه الأزمة تخوفاً من حركة هجرة جديدة لهذه الأقلية المضطهدة، وهي خطوة ذات دلالة، إذ جرى العرف بين دول الرابطة على عدم مناقشة القضايا الداخلية للدول الأعضاء، وهو ما اعتبر مؤشراً على خطورة الأزمة، خاصة بعد أن دخلت الأمم المتحدة على خط الهجوم على حكومة ميانمار ووجهت على لسان مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان زيد رعد بن الحسين انتقادات عنيفة لحكومة ميانمار، ورأت أن نهج الحكومة متهور وغير مجد، وهو نفس الموقف الذي تتبناه ماليزيا التي نددت على لسان رئيس وزرائها بعمليات إبادة الروهينجيا مطالبة سو تشي بالتحرك، وتساءل ابن الحسين عما إذا كانت سو تشي تستحق جائزة “نوبل للسلام” التي حصلت عليها أم لا؟!
ومع أن حكومة ميانمار مصرة على أن معظم التقارير التي تتناول الوضع في ولاية آراكان ملفقة، وأن أزمة الروهينجيا شأن داخلي، فإن الضغوط الدبلوماسية خاصة من جيرانها ومن بعض الدول الأوروبية دفعت سو تشي إلى التحرك بشكل مختلف عن المرات السابقة، خاصة بعد أن أبدى العديد من الدول تخوفه من أن تصبح ولاية آراكان أرضاً خصبة للإرهاب بسبب الظلم الواقع على الروهينجيا بكل ما سيجره ذلك من مشكلات على دول المنطقة، بل ورأى البعض أن الوقت قد حان لتشكيل قوة عمل إقليمية للتنسيق والاستجابة الفورية في حالة حدوث نزوح جماعي للروهينجيا مرة أخرى، ومن ثم دعت الحكومة وفداً من ممثلي وسائل الإعلام المختارة لزيارة بعض المناطق رغم أنها رفضت ذلك سابقاً، كما دعت سو تشي لعقد اجتماع لوزراء خارجية دول الآسيان، مبررة ذلك بأنها تتفهم مخاوف الدول المجاورة، وترغب في تقديم إيضاحات لحقيقة ما يحدث، وهو ما حدث بالفعل وإن كان لم يغير كثيراً من الوضع القائم.
واتساقاً مع ذلك أيضاً كانت زيارة كوفي عنان الذي يرأس اللجنة المشكّلة لدراسة الأزمة ووضع تصور للحل لولاية آراكان.
اللافت في هذه الأزمة أن الانتقادات والهجوم والتشكيك يلاحق كل من يتصدى لها، بدءاً من رئيس وزراء ماليزيا الذي اتهم من قبل البعض بأنه يصعّد من لهجة الهجوم سعياً وراء مزيد من الشعبية استعداداً للانتخابات المقررة عام 2018م، ولجنة كوفي عنان التي اتهمها الناشطون بأنها تقلل من حجم مأساة الروهينجيا، بينما اتهمها مواطنو ميانمار بأنها تعمل لصالح الروهينجيا على حساب البوذيين في ولاية آراكان، وانتهاء بـسو تشي التي حظيت بنصيب الأسد من الاتهامات كونها تعد أيقونة للكفاح في سبيل الديمقراطية، ولكنها تقف موقف المتفرج من مأساة وظلم كبيرين يقعان على عاتق أقلية محرومة من كل شيء، وهو ما فسره المراقبون بأنها في ظل المناخ السياسي السائد لا يمكنها أن تناقش قضية الروهينجيا بموضوعية، لأنها ستكون في هذه الحالة موضع هجوم من قبل حزبها ومؤيديها على حد سواء، كما أنها باستجابتها للضغوط الدولية ستغامر باستقرار حكومتها، ولذلك ليس أمامها سوى تجاهل ما يحدث، خاصة أن معظم سكان ميانمار لا يتعاطفون مع الروهينجيا ويرون ما يحدث عمليات تطهير ضد عناصر مسلحة وعنيفة.
ويبقى التساؤل في النهاية قائماً وهو: هل سيستمر الوضع كما كان في السابق، أم أن العام الجديد سيشهد تغيراً في تلك القضية التي تحتاج إلى حل جذري وليس مجرد تنديد وشجب قبل أن تتحول لبيئة حاضنة ومولدة لانتشار العنف في تلك المنطقة من العالم؟