قبل أن نسرد حكاية هذا الفلاح العراقي، دعونا نوضح الخلفية التاريخية للموضوع، فقد كان الشيخ عبدالله الأحمد الجابر الصُباح مديراً لدائرة الأمن العام في بدايات تأسيسها.
وقد كان نظام إدارة الأمن من البساطة بطريقة كان يجمع خلالها رحمه الله بين صلاحيات السلطات الثلاث في منصبه هذا، فقد كان يؤتى إليه بأي مواطن أو مقيم قد أخطأ في أي شيء لا ينبغي فعله، فيسأله في عملية تحقيق بسيطة سرعان ما يحدد له بعدها العقوبة الفورية بالضرب بالفلقة.
وكان يتم هذا الضرب في قصر نايف، حيث مقر الأمن العام آنذاك، مقره الدائم في الفترتين الصباحية والمسائية، فهو المكتب والديوان في آنٍ واحد يستقبل فيه جلساءه، ويدير فيه أعماله الأمنية من خلال مساعدين له في تنفيذ العقوبات (الفداوية).
وقد كانت عملية الضرب للمسيئين تتم إما وهم على الأرض أو واقفين بتعليق أيديهم في أحد الأعمدة الخشبية في أحد أروقة قصر نايف، ويسمى العمود التي يربط فيه حبل تعليق اليد “الصلابة”.
وهذا مدخلنا إلى الحديث، حيث يروي لي الأخ الفاضل شاهين سالم الغانم (بو محمد) وهو مهتم بالتراث والتاريخ الكويتي عن فلاح كان يخدم في بستانهم الكبير في البصرة، وهذا شأن الكثير من العائلات الكويتية التي كانت ولا تزال تمتلك أراضي زراعية كبيرة جداً هناك، حيث كانت تنتج التمور التي يأخذها النواخذة الكويتيون لبيعها في الهند وأفريقيا.
يقول الأخ بو محمد: في الخمسينيات لقد كنت صغيراً وأسمع أحد الفلاحين العراقيين بالمزرعة كلما تحدث إلى العائلة دعا للشيخ عبدالله الأحمد بالخير، وبلا مقدمات مفهومة، ولما تكرر منه ذلك الدعاء، سألته خالتي عن خلفية هذا الدعاء المتكرر، فأوضح لها أنه كان يوماً من الأيام كلما اشتغل وجمع مالاً من الزراعة شرب الخمر وأضاع عياله، حتى سمع عن فرص العمل بالكويت ليحصل على المال حتى لو اضطر إلى السرقة من بعض الأغنياء الذين يراهم في أملاكهم الزراعية في البصرة وما حولها.
ولكنه عندما قدم إلى الكويت ومرَّ بقصر نايف الذي كانت أبوابه مشرعة لمح الصلابة، فسأل عنها فأخبروه بسبب ربط الحبل في أعلاها، فكانت رادعاً له طوال فترة بقائه في الكويت عن أي عمل مشين، فأصبح هذا الخوف سبباً في استقامته خوفاً من العقاب وليس بالضرورة قناعة بالسلوك الخطأ، حتى جمع مالاً كافياً من عمله في البناء فعاد إلى البصرة وفتح دكاناً يساعده أولاده في إدارته، وذلك بالإضافة إلى عمله في الفلاحة.
وهذا ما جعله دائم الدعاء للشيخ عبدالله الأحمد الذي كانت سياسته في المعاقبة الفورية للمسيء سبباً في ردع ذلك الفلاح العراقي عن الإساءة لنفسه وعياله قبل الآخرين.
ويستأنف الفلاح العراقي: فلما قررت العودة للبصرة لأكون قريباً من أبنائي ذهبت إلى قصر نايف ودخلت بلا استئذان من أحد، فقبَّلت تلك الصلابة (العمود)، فلفت ذلك نظر الشيخ عبدالله الأحمد الذي كان يجلس أيام الحر في الظل خارج مجلسه المعتاد، فأشار إلى رجاله إلى أن يحضروني إليه مستغرباً من تصرفي، حيث ظن أنه استهزاء بالعقوبة، فلما وضحت له خلفية تقبيلي للصلابة أعطاني 10 روبيات لتعينني على السفر ولوازمه (وهي بالمناسبة عادة طيبة للشيخ عبدالله الأحمد حين يجبر خاطر من استدعاه للعقوبة ولم يثبت له تقصيره واستحقاقه للعقوبة – حسب ما بلغني).
ذهب الفلاح العراقي وبقيت قُبلته للصلابة شاهدة على القاعدة التاريخية الذهبية أنه ورغم كل التشريعات الحالية والأحكام القضائية: “من أمن العقوبة أساء الأدب”.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
www.ajkharafi.com