ـ من أهم عِلَل الخطاب الديني اليوم التكرار الذي صرف الناس عنه بالكلية
ـ نحن بحاجة إلى أسلوب جديد لتوليد الموضوعات والنفاذ للحق من زوايا متنوعة
في هذا العصر سارت دعوات كثيرة تنطلق هنا وهناك حول الخطاب الديني، لا شك أن الريب أحياناً يصيب المخلصين ممن يطلقون هذه الدعوات التي لا يدرون كيف تدخل عليهم من النوافذ تارة ومن ثقوب الباب أخرى.
لا يلبث الدعاة تحت وطء هذه الدعوات وإلحاح أصحابها إلا أن يتحركوا، لكن أحياناً يكون تحركهم متأخراً، وفي هذا التأخر يعيب أكثرهم على الذين سبقوهم لأخذ الزمام وتوضيح الصواب.
في خضم الدعوات التي تتوالى لتجديد الخطاب الديني، كان الحري بالدعاة والعلماء أن يبادروا قبل أن تنسحب المبادرة من تحت أقدامهم، والسبب في هذا هو أن المطلوب هو تجديد الخطاب، لا تجديد الدين؛ فالدعوة بهذا وإلى هذا صائبة صحيحة، إذ إن مراعاة مقتضى الحال الذي يراعي: حال السياق، وحال المتكلم، وحال المخاطب، والذي يشمل: الزمان والمكان، كما يشمل الظروف الثقافية والاجتماعية بل والسياسية التي يكون فيها الخطاب.
عِلَل الخطاب الديني اليوم
أحاول هنا أن أطرح فكرة تتعلق بتجديد الخطاب الديني بصورة تنحو إلى الموضوعات التي يطرحها الخطاب ذاته.
من أهم علل الخطاب الديني اليوم التكرار الذي صرف الناس عنه بالكلية، فعلى مستوى الخطاب الدعوي رأيناه اليوم يدور في فلك موضوعات معينة يدور حول ما يتعلق بها، ويفتقد الابتكار ويفتقد الفاعلية، فمسألة التوحيد والتدليل عليها وأهميتها والفهم الصحيح لها أخذت حيزاً مبالغاً فيه، لا يخرج في الغالب عن طريقة علم الكلام، حتى لو كان الداعية يعرض لمنهج السلف.
مسألة الحديث عن السُّنة والبدعة وبيان ما هما لا تختلف كثيراً عما سبق، فقد حازت حيزاً مبالغاً فيه عند المتناولين لهما، تدور كثير من الدروس الدينية والخطب في هذا الإطار، ويدلل كل متحدث على أهمية ما يقول وخطورة الانحراف في هذا الباب، وهو لا يعدم في هذا الأدلة والقصص التي تثبت لمستمعه أو قارئه صواب ما يقرره، ثم ينعطف باللوم على من يرى ضرورة البحث عن خطاب آخر حول ما سلف.
في خضم تجديد الخطاب الديني أصبحنا بحاجة ملحة إلى أسلوب جديد لتوليد الموضوعات، والنفاذ للحق من زوايا غير الزوايا التي كانت قائمة في العقود الثلاثة الماضية، لقد كانت عبقرية الإبداع في تراث القدماء بينة واضحة، وكلما جد أو طرأ ما يحتاج لإتمام أو تأليف لم يتركوه أو يقصروا في معالجته وبيانه.
التجديد المطلوب
في مجال الدعوة إلى الله تعالى نحتاج أن نستلهم منهج التأليف الذي ساقه حاجي خليفة، رحمه الله، إذ يقول: «التأليف على سبعة أقسام لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها، وهي إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه».
فاختراع الموضوعات وحسن استنباط مسائلها، وتتميم ما يحتاج لنقص؛ هو ما يبرز قدرة الداعية في مجاله، أما أن يدور الداعية في فلك موضوعات أو معالجات لمشكلات بطريقة عفى الزمن عليها، فإن جهده يضيع سدى، ومهما شكره المستمعون على قوله أو موضوعه، فليعلم أنه لم يصب بسهامه الأفئدة، إنما حاز مجاملة توشك أن تنمحي أو تنتحي.
ثم إن التجديد المطلوب لا يعني بالضرورة اختراع عناوين غير العناوين، وإن كان هذا جيداً وعظيماً، ولكنه يكون بالأساس في المعالجات للموضوعات، فمن الجيد أن يكون الموضوع له روح يشعر به الداعية، حتى إذا تكلم تكلم من فؤاده لا من لسانه، فلقد قال عمر بن ذر لأبيه: «يا أبي! ما لك إذا تكلمت أبكيت الناس، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة» (المجالسة وجواهر العلم: 3/ 110).
كما أن عناية الداعية بالمناقشات حول الراجح والمرجوح، والأولى وغيره مضيعة للوقت وتشتيت للجهد وبقاء في دائرة الجمود الذي لن يجاوز به حدود صوته.
إن أبواب التجديد في الخطاب الديني تحتاج إلى طَرْقها من قبل المخلصين من الدعاة الغيورين على الدعوة، حتى يأخذوا بزمام المبادرة، قبل أن يلزمهم أغمار أو أقزام تسوروا أسواراً ليسوا لها أهلاً، فقالوا في الخطاب الدعوي بما لا ينبغي أن يقال، أو أشاروا بما لا يصح أن يشار به، ثم يتحرك الدعاة بعد أن يكون الليل أرخى سدوله فحجب شمساً كانت مشرقة.
كما أنه من اللازم أن تكون النظرة للخطاب الدعوي شاملة على مستوى التأليف والمحاجة والمناظرة، والرد، والخطابة، والبرامج.. إلخ، تطرق كل أبواب يمكن للدعوة أن تؤسس من خلالها جيل الوعي ومجتمع الفضيلة، فلقد علت الشكايات حقيقة في هذه الأزمنة من كثير من الخطابات الدعوية، وآن لمن يتصدى للدعوة أن يقف وقفة تجاه خطابه، وتجاه موضوعاته، وتجاه ساحته التي يتحرك فيها، وتجاه الأفكار التي يظنها من قبيل الثابت وهي عند النظر من قبيل المتغير.
وهذه النظرة المطلوبة لا بد منها في تطوير الخطاب، وتثبيت الدين في قلوب المؤمنين به.