لقد ضرب أهل الكويت الكرام أمثلة رائعة في الحرص على اكتساب ثقة من يتعاملون معهم والحفاظ على السمعة الحسنة في مجتمعهم التجاري الصغير والكبير، وهذا ما سوف نستعرضه في ذكر هذه القصة الواقعية التي يرويها لي الأخ أحمد بن برجس الشمري، الباحث في تراث الكويت والجزيرة العربية، وعضو معهد المؤرخين البريطاني.
وجاء فيها أن أرشيد القفيدي الرشيدي، وهو أحد تجار الكويت المعروفين، وكان دائم السفر إلى المملكة العربية السعودية للقاء ملك السعودية ومباشرة أعماله التجارية هناك، وفي إحدى المرات وأثناء وجوده في الكويت وكان معه مبلغ من المال وأراد أن يتركه أمانة عند التاجر مبارك الردعان الرشيدي رحمه الله تعالى، فتوجه إليه في دكانه ليترك عنده الأمانة ويسافر إلى السعودية، ولكنه وجد دكانه مغلقاً والتاجر مبارك الردعان غير موجود، ولكنه وجد الدكان المجاور له مفتوحاً وكان للتاجر المعروف عبدالله الفارس رحمه الله تعالى، فسلم عليه وسأله عن التاجر مبارك الردعان الرشيدي، فقال له التاجر عبدالله الفارس: “مبارك غير موجود لم يفتح دكانه اليوم، آمر إيش بغيت؟”، فقال أرشيد القفيدي: “أنا مسافر للسعودية ومستعجل وعندي أمانة بتركها عنده”، فرد عليه عبدالله الفارس: “هات الأمانة أنا أوصلها له وتوكل على الله”، فاستحسن أرشيد القفيدي الأمر وبكل ثقة واطمئنان وبدون أي ضمانات ترك أمانته عند التاجر عبدالله الفارس وتوجه إلى حيث أراد، وقام التاجر عبدالله الفارس بكتابة اسم أرشيد القفيدي الرشيدي على الكيس وحفظه مع الأمانات في الخزنة (التجوري) عنده.
ومرت حوالي ثلاث سنوات على هذا الموقف، وعاد أرشيد القفيدي إلى الكويت، وذهب إلى دكان التاجر مبارك الردعان الرشيدي ليأخذ أمانته، وبعد أن سلم عليه طلب منه الأمانة التي تركها منذ ثلاث سنوات، ودخل التاجر مبارك الرشيدي ليحضر له الأمانة وبحث في جميع الأمانات التي عنده في التجوري وفتش في جميع الأسماء فلم يجد أمانة باسم أرشيد القفيدي، فأدرك التاجر مبارك الرشيدي بداخل سريرته وبالفطرة أن أرشيد القفيدي حتماً قد التبس عليه الأمر، وإلا فأين ذهبت أمانته؟ وخاصة أن التاجر مبارك الرشيدي لم يتذكر أنه ترك عنده هذه الأمانة، وبسرعة بديهة وذكاء مميز بادر التاجر مبارك الرشيدي، أرشيد القفيدي قائلاً: “كم كانت أمانتك؟ الأمانات عندي كثيرة وبعض الأمانات أنسى أسجل الأسماء عليها”، وفي هذه اللحظة دخل التاجر عبدالله الفارس فسلم على أرشيد القفيدي وقال له: “وينك من ثلاث سنوات، أمانتك عندي في التجوري”، وهنا بادره أرشيد القفيدي قائلاً: “إنت ما عطيتها لمبارك الردعان؟”، فرد عليه التاجر عبدالله الفارس قائلاً: “لا والله موجودة عندي من يومها في التجوري ما تذكرتها إلا الحين، ونسيت أعطيها لمبارك الردعان”، هنا توجه أرشيد القفيدي إلى التاجر مبارك الردعان الرشيدي قائلاً: “ما دام الأمانة مو عندك، ليش سألتني عن قيمتها؟”، فتبسم التاجر مبارك الرشيدي وقال: “أنا لم أتذكر أنك تركت أمانتك عندي، وبالرغم من ذلك بحثت عنها في التجوري، وعندما لم أجدها بالفعل كما توقعت، أدركت أن في الأمر شيئاً ما حدث بالسهو أو النسيان منك، وحفاظاً على علاقتنا الطيبة وعلى سمعتي قررت أن أدفعها لك إلى حين أن تتذكر أين تركتها وتظهر الحقيقة”.
هكذا وضحت هذه القصة الواقعية ما تمتع به أهل الكويت في كويت الماضي من صفات جليلة سطرها التاريخ بحروف وكلمات من ذهب، فامتازوا بالأمانة والحفاظ على السمعة الحسنة والثقة المتبادلة فيما بينهم، فعاشوا حياة طيبة هنيئة مملوءة بالحب والخير والوفاء.
رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جناته.