لا شك أن المعنى الضيّق للصيام المستقر في أذهاننا منذ نعومة أظفارنا والمتجلي في الاكتفاء بالامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يبقى معنى قاصراً لا يحقق في غالب الأحيان الثمار المرجوة من الصيام، لأنه يوقع الصائم في وهم أن الامتناع لا ينبغي أن يشمل إلا البطن والفرج، الشيء الذي يترتب عليه أننا أصبحنا نرى في رمضان وهو شهر الصيام ظهور اختلالات ونشوب صراعات بين الصائمين وما يرافقها من سب وشتم وضرب وجرح بل وقتل أيضاً، ولم نعد نستغرب التحرش والاطلاع على العورات وتتبعها سواء بالأعين أو الأرجل بل والزنا والتعاطي للمخدرات أيضاً في ليالي رمضان من طرف بعض صائمي النهار، ولا نستغرب أيضاً الغش في الموازيين ورفع الأسعار والاحتكار وانتشار القمار وغير ذلك من الفواحش في أيام رمضان من طرف بعض الصائمين التجار، ولا نستغرب أيضاً مشاهدة المنكرات في الأفلام والمسلسلات التي تعج بها الفضائيات.
نعم لم نعد نستغرب هذه الأشياء وغيرها مما يقع في رمضان من طرف بعض الصائمين الذين فهموا الصيام على غير معناه وشيدوه على غير مبناه فاختلت الصورة وبقيت الأهداف والمقاصد معدومة أو مبتورة فلم يكن لهم من الصيام غير الجوع والعطش كما أخبر خير الأنام صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ” (ابن ماجة).
إن هذه الانحرافات التي ترافق أحوال الصائمين لا مناص من الخروج منها وتجاوزها إلا بتوسيع دائرة الرؤية والفهم والانتقال السريع من ذلك المعنى التقليدي الضيق للصيام إلا المعنى التلسكوبي الضخم والأرحب والأوسع الذي يُفهم من خلاله الصيام على أساس أنه مشروع وورش مفتوح وعرض من الله تعالى لعباده الصالحين ينبغي أن تسارع كل الجوارح (اليد الرجل الأذن اللسان..) للانخراط فيه لا الاقتصار على البطن والفرج منها.
وعليه؛ فإن الصيام بمعناه التلسكوبي العملاق الذي ينبغي أن تنخرط فيه كل الجوارح لا يتحقق إلا بتفعيل قيمة التقوى (لعلكم تتقون) التي ينبغي أن تكون بمثابة جهاز استشعار لذي كل صائم يريد من صيامه التقرب إلا الله تعالى، فتنذره وتحذره من كل محظور وتبعده عن كل سوء يهم باقترافه، وهكذا يكون المقصود بـ”لعلكم تتقون” التي هي الغاية العظمى والمقصد الأسمى من الصيام أي:
“لعلكم تتقون” الأكل والشرب والجماع ابتداءً، وكذلك “لعلكم تتقون” النظر إلى المحرمات، و”لعلكم تتقون” سماع المنكرات، و”لعلكم تتقون” نهش الأعراض، و”لعلكم تتقون” لمس ما يحرم من الأشخاص والأغراض، و”لعلكم تتقون” كل ما ينبغي أن يُتقى من القبائح قولية كانت أو فعلية ظاهرة كانت أو باطنة، قال صلى الله عليه وسلم: “مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه” (رواه البخاري)
إن المعنى التلسكوبي للصيام يمتد ليغطي وليشمل جميع أطراف الجسم وليُشعر بأن العين ينبغي أن تصوم والأذن ينبغي أن تصوم واللسان ينبغي أن يصوم واليد ينبغي أن تصوم والرجل ينبغي أن تصوم والعقل والفؤاد كل أولئك ينبغي أن يصوم، على خلاف المعنى القديم الذي يُشعر صاحبه أن الصيام مرتبط بالبطن والفرج فقط أما باقي الجوارح فهي ربما قاصرة أو غير عاقلة أو ربما قد رفع عنها القلم، كــلا (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً {36}) (الإسراء).