على الرغم من الوطأة الشديدة للأزمة السياسية الأخيرة في تونس، التي لم يكد مجلس نواب الشعب يحسمها حتى بدأت مؤشرات أزمة أخرى بالظهور، وبالتزامن مع حالة من النفور الذي تتسع رقعتها من العملية السياسية بسبب الأزمات المتتالية التي تتخبّط فيها أغلب الأحزاب، ناهيك عن تجاهل النخبة السياسية سلطة ومعارضة للجوهر الاجتماعي للثورة، في ظل سطوة قضايا ثقافية ومجتمعية أخرى، تتمكّن حركة النهضة من عقد اجتماع جماهيري ضخم جمع منخرطي الحركة بمدينة أريانة مع رئيسها راشد الغنوشي.
سافر راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة إلى إيطاليا قبل أيام، تاركاً وراءه جدلاً واتهامات للحركة من طرف لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد، ومحمد البراهمي بتشكيل تنظيم سرّي، وعاد بعد المشاركة في مؤتمر نظمه مركز “حوارات المتوسط” ليجد رئاسة الجمهورية قد انخرطت بشكل من الأشكال في الجدل، وقد بادر الباجي قائد السبسي بنقل الملف إلى مجلس الأمن القومي.
الحوار سبيلاً لإدارة الخلاف
أعلن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي تمسكه وحزبه بالحوار كأداة حضارية لإدارة الاختلاف، وذكّر بأنّ البلد وتجربته يحتاجان لكل التونسيين دون استثناء، بما في ذلك أبناء الجبهة الشعبية الذين يطالب بعضهم بإقصاء النهضة من المشهد، مجدّداً الإشارة إلى أنّ الأحياء الشعبية والفئات المهمّشة هي نقاط قوّة حركة النهضة وحاضنتها الشعبية الصلبة.
وأكّد الغنوشي أن الوضع الذي تمر به البلاد صعب ويحتّم على الجميع المشاركة في عملية الإصلاح، وأوضح بأن الاتّهامات الأخيرة الموجهة للحركة بتشكيل تنظيم سرّي، ليست جديدة، مذكّراً بتاريخ “التهمة” التي لاحق بها النظام كل معارضيه الذين لم يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم وبالنشاط القانوني.
كما أعاد الغنوشي التذكير بالمحاكمات التي تعرّض لها حزبه بسبب رفض النظام السماح له بالتنظّم وبتأشيرة العمل القانوني، التي كان بعضها تحت عنوان “تشكيل تنظيم سرّي”، وقال في هذا السياق: يتهموننا بأننا تنظيم سري، فكانت إجاباتنا أن اعترفوا به واتركوه يناضل من أجل وطنه في إطار الديمقراطية وسلطة القانون، ولكن كان جوابهم الاعتقالات وضرب الحركة واستمروا في حرب شاملة لم تنته إلا باندلاع الثورة.
الغرف السوداء
وأشار الغنوشي إلى أن نفس الجهات التي شنت علينا تلك الحملات لا تزال هي وأنصارها يواصلون ذات الإستراتيجية، وهو دليل لرفضهم للمنافسة السياسية مع الحركة وعدم قدرتهم على ذلك، وعذرهم في ذلكَ بأنها تنظيم سري دون حجز أسلحة أو متفجرات.
وأكد الغنوشي أن ادعاء وجود غرف سوداء ومحاولة ربطها بالاغتيالات وتلويث المناخات العامة في البلاد والاتجاه بها نحو التأزيم ومنع السير في طريق استكمال المسار الديمقراطي الانتخابي، ولعل الهدف من كل هذه المسرحية الوصول إلى انتخابات دون النهضة أو بنهضة منهكة، أو ربّما منع الوصول إليها أصلاً، وحذر من مخطّطات المتمترسين في خطابات النظام القديم والاستئصاليين.
كما توجّه رئيس حركة النهضة بشكل مباشر إلى التونسيين قائلاً: النهضة لا تحمل رسالة تهديد لأحد، ولكن إذا كانت النهضة في المقدمة وأثبتت ذلك في رهانات متعددة، فلا يمكن لعاقل أن ينخرط في مسار لضربها أو تحويلها إلى فزاعة ويتهمها بما ليس فيها، وأضاف: النهضة متماسكة وقوية وكلما كانت حملات التشويه في تزايد وتصاعد كانت النهضة أقوى بوحدتها وقدرتها على الفعل.
جدل المساواة في الإرث
وحول جدل المساواة في الإرث، أكد أن الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية واستمرار تثبيت معالم التجربة الديمقراطية الناشئة هي التي أثبتت السنوات الماضية أنها أولوية شعبية، وقال رئيس حركة النهضة: إن الميراث ليس موضوعاً شعبيّاً، ولم يندرج في أي برنامج لأي حزب من الأحزاب، وهو يُعتمد الآن كجزء من الحملات الانتخابية لتقسيم المجتمع وضرب وحدته، بين منتصر للنساء وعدو للنساء، بين منتصر للحداثة وعدو للحداثة، بين منتصر للدين وعدو للدين، وبين منتصر للمدنية وعدو للمدنية.
لا تناقض بين الإسلام والمدنية
وحذّر الغنوشي من تعزيز الفهم الذي يثبت التناقض بين الإسلام والمدنية وجعل المفهومين في حالة صراع وخلاف، مؤكّداً أنه تناقض غير مطروح أصلاً، مضيفاً أن فصول الدستور لا يتجاوز بعضها بعضاً، ولكنها تفسر بعضها وتشرح بعضها بشكل تكاملي، بعيداً عن محاولات اختلاق نقاط تعارض بين نصوص الدستور من أجل العبث بوحدة الدستور الذي أشاد به العالم برمته.