لُوحِظَ أنَّ البعضَ يَستعمل كلمةَ “التراث” لشيء غَدَا تاريخاً مَوْقِعُه المتاحف، لِيُصْبِحَ تاريخاً مغموراً محجوباً مركوناً، في زاوية الذاكرة التاريخية، وإن كان جميلاً، بل منهم مَنْ اعتبر الإسلامَ نوعاً مِنَ التراث، قَصَدوا إزاحته عن الحياة وتوجيهها، إذنْ: هل يحملنا هذا التَّوَجُه أن نَهْجُرَ المصطلح أو نهجر المعنى المفتعل المدخول، لكني تعلقت بالمعنى الثاني.
كان الأوجبُ التفضيلَ المؤكدَ المُتَعَمَد أنْ نأخذه بهذا المضمون الأصيل بفهم سليم محتفظ بسعته ومضمونه وتَبَنّي آفاقه الوضاءة، لا سيما باعتباره تعبيراً رائقاً عن معانٍ إسلامية وبعض جوانب حضارته الحية المرتبطة بالمنجزات الإسلامية، والنظر إلى مبانيها، للأخذ بأسبابها الجادة، التي تقود إلى الترقّي الفريد في كافة مناحي الحياة ومجاليها، بمقدار الأخذ بمنهجه الإلهي القرآني الفريد.
هذا موقف محمود أمام إمكانية استعماله لشيء حي متجدد ممتَلِئ حيوية، ممكن شَحْن وعائه باعتباره ميراثاً مستمر الحياة متجدداً، يبث الحيوية في الأمة، باحتواء ما تبقى من النتاج البشري الكريم، يُثِيرُ الانتباه باعتباره مهْمَازاً، يُحَرّك الإنسانَ نحو المُحْتَوَى المُحْتَضِن لمعانيها ومبانيها.
التراثُ: الإرْثُ أو الميراث، يُسْتَعَمَل للأمور المعنوية، كما يُطْلَق على النتاج الفكري الموروث، الذي خَلَّفة السَّلف، يَشْمِل التراثُ ما وصلنا من نِتاج المسلمين الفكري في العلوم البحتة والإنسانية بشمولها.
موضوع التراث العلمي والتراث الإنساني العام –في حضارتنا الإسلامية– مُهمٌ جداً ويَغْدُو مسؤولية، يمتلك جوانبَ أساسية مِنْ هذه الحضارة الإسلامية، التي تُكَوِّن قِوام بنائه وجَمَّاع فضله، دراستُة جِدُّ ضرورية، تُطْلِعُنا على نِتاج الحضارة الإسلامية، اتسعت لهذا التراث وغيره مِنْ جوانب هذه الحضارة الشاملة، والحضارة أعَمُّ من التراث وأشمل منه.
التراث فَصْلٌ في سِفْر الحضارة الإسلامية الميمون، سِفْرٌ محتَوٍ النشاطَ الإنساني المُشرق الوضاء، شاملٌ ممارسات حياته وعَلاقاته وأخلاقياته، باستمداده العقيدةَ الإسلامية وشريعتَها الربانية، إيماناً بمقتضياتها وتَمَثُّلاً لأوامرها وتجنباً لنواهيها وأخذاً بتعاليمها، برِقَّة ودقة وذوق وعناية، بكل شمولها الواسع، أوامرَ وواجباتٍ ومندوباتٍ، بإقبال يبتغي رضا الله تعالى والقربَ منه سبحانه وتعالى والرغبة بجواره والفوز بجنته.
لذلك أَطْلَقَ البعضُ على الأندلس «الفِرْدَوْس المفقود»، أَعْتَبِرُهُ فردوساً موجوداً مُتَجَدِّداً، علاماتُه ومادته وقوته مرئيةٌ بين أيدينا.
أَتَحَدَّثُ هنا عن جزئية من الفردوس الموجود، نتيجةً وثمرة باهرة، مِنَ التراث أو الميراث الأندلسي، المتعلق بما بقي مِنْ «مسجد قرطبة الجامع»، ما يَزَال يَحْمِل نَفْسَ الاسم بالإسبانية «La Mezquita Aljama”، دُرَّة العِمارة الأندلسية العالمية، على مدار التاريخ حتى اليوم، رغم ما أصابه، الذي لو نال بعضُه غيره لَمَا أَبْقَى على شيء منه، حيث طالت نكبتُه ومحنتُه والتشويهُ والاعتداءُ على كُلِّ حقوقه، شَمِلَ كُلَّ ما فيه مِنْ حجارته وزخرفته وألوانه ومواقعه، لكنه رغم كُلِّ ذلك ما يزال يحتفظ ويحتضن ويمتلئ بالكثير مِنْ بهائه المُتَمَيِّزِ، يدعو للإعجاب والجاذبية والتأمُّل، مع مرور القرون على بَدءِ إنشائه، الذي قامَ به الأميرُ عبدالرحمن الداخل عام 168هـ/ 784م، استمرت تَوْسِعاتُه نحو قرنين، لكأنه أُقِيمَ بيد نَفْس المهندس المسلم، عِلْماً أنَّه غيرُ معروفٍ اسمَ أَحَدِ المهندسين، يُشرف على ذلك العلماءُ والأمراء والخلفاء، أَلْبَسُوه مما ألبسوه مجموعةً مِنَ التيجان والأوسِمة، غَدَا غُرَّة ودُرَّة ومَبَرَّة بين المساجد، لا في قُرْطُبة التي احتوته -مثلما احتوت آلاف المساجد- لا في الأندلس فحَسْب، بل في العالم الإسلامي كُلِّه قاطِبَةً، قال فيه أميرُ الجغرافيين المسلمين العالميين الشريف الإدريسي، الأندلسي ساكن سبتة، صاحب كتاب “نُزْهَة المشتاق في اختراق الأفاق”: “يَحَارُ فيه الطَّرْفُ(العَيْن) ويَعْجَزُ عن حُسْنه الوَصفُ”.
يُمَثِّل هذا المسجدُ قمةَ الهندسة المعمارية العالمية، فَشِلَ كُلُّ مَنْ حاول إنشاءَ ما يُمَاثِلُه أو شبيهاً به رغم التقليد، كان أشبه بغابةٍ من الأعمدة المرمرية الناعمة الرشيقة الأنيقة، بَلَغَ عددُها 1417 عموداً، لم يَبْقَ منها اليوم غير نحو نِصفها، الذي نَجَا من يد التشويه والتغيير والعبث.
كم زَارَ هذا المسجدَ الكريم خلال تاريخه الممتد مِنْ المسلمين وغيرهم! كُلُّهم أُخِذُوا بالمتبقي منه، تجاوز في نظرتهم كَوْنُه تراثاً، نظروه باعتباره فناً باهياً باهراً، يُشِيرِ للأيادي المتوضئة الطاهرة البيضاء النقية البارعة المتفننة المسلمة، عَمَّرَتْهُ بإخراج بديع نادر، كم كتبٍ تَحَدَّثت عنه، قال أهلُها فيه مِنَ الكلام العجيب! حَظِيَ بسهم كبير مِنَ الشِّعْر لمن زار أروِقَتَه العامرة الدافئة الحَنُون، يَرْقَبُ ويَتَملَّى رَوْعاتِه، عَرَفَ أخبارَه وصُوَرِه وفَنِيَّاته، زاره قديماً سفَيرٌ مَغْربي، قال: كان يبكي ويَتَمنَّى لَثْمَه وأَلَّا يُفارِقُه، مُكْثِرَاً مِنْ تقبيله.
هكذا يكون كُلُّ خيرٍ حققته الأمةُ الإسلامية وفَضْلٍ قَدمَّتْهُ في حضارتها كان بهذا السبب، ثمرةً لبنائها على هذه القواعد المتينة، يَتِمُّ ذلك بمقدار التزامها، قَدَّمَتْ خيراً وعبَّرَتْ بِرّاً في أشكالٍ متعددة وألوانٍ متنوعة، كَثُر نِتاجُها واستطابت طُعُومُها خيراً، لا خوف عليه ما دامت كذلك، مهما احْتَوَشَتْها المشكلات وتناوشتها المؤامرات وكَثُرَتْ عليها المحاولات، سارت قافلتُها المباركة بثبات خلال القرون، مُقارعةً مُصَاوِلَةً تُوالي هذه المعاني مُحْتَضِنَةً تلك المَرَامِي، ما انفرط عِقْدُها ولا تَوَقَّف دُولابُ نِتَاجِ حضارتها، إلا يومَ قصُرَت –لأسباب داخلية وخارجية متنوعة– عن هذا المستوى وقَصَّرت في الالتزام بمنهجها، عندها ضاعت وضَيِّعت، الأمل إنْ شاء الله أنْ تعودَ إلى منهج الله، مُسْتَدْرِكَةً ما فات مُدْرِكَةً حقائقَها، ليعود سَيْرُ مَوْكِبِها المنير إلى طريقه التَّقَدُّمِيّ المعهود الميمون الكريم.
_____________________________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي وحضارته.