يعرف التراث في كتب اللغة بأنه التراث أصل التاء فيه واو، تقول: ورثت أبي، وورثت الشيء من أبي، أرثه بالكسر فيهما، ورثاً ووراثة وإرثاً(1).
وإذا انتقلنا إلى المعنى الاصطلاحي وخصصنا الحديث عن التراث الإسلامي، فإننا نجد قول الشيخ ابن باز يرحمه الله: «المقصود من التراث الإسلامي هو ما بعث به نبينا عليه الصلاة والسلام من الهدى ودين الحق، والكتب التي ألفت في ذلك مما ينفعنا والمخطوطات الموجودة في ذلك»، وعلى هذا، فالدين جزء من التراث باعتباره وصل إلينا من السابقين، ولكن القرآن تحديداً لا يسوّغ أن نطلق عليه اسم التراث؛ لأنه كلام الله الذي لا يحويه زمان.
إطلاق لفظ التراث على القرآن والسُّنة، وهما أصل الدين، إطلاق فيه تساهل وتوسع في التعبير، وإلا فإن القرآن والسُّنة ليسا تراثاً ولا ماضياً، إنهما الماضي والحاضر والمستقبل، وهما رسالة الله العامة الخالدة التي تخاطب الإنسان وتهديه في كل زمان ومكان، قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣﴾ (الأنعام).
وإذا مضينا مع هذا التساهل بإدخال القرآن والسُّنة في التراث، فإن علينا ساعتئذ أن نفرق بين مكونات التراث إلى فئتين:
الأولى: الفئة المقدسة المعصومة من الخطأ والزلل والتحريف؛ وهي القرآن والسُّنة، وهذه العصمة لا تقتضي التقديس العاطفي فحسب، بل تقتضي الانصياع الكامل لهما، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٣٦﴾ (الأحزاب).
الثانية: الإسهامات العلمية التي قام به العلماء لخدمة الفئة الأولى (القرآن والسُّنة).
وهذه الإسهامات اشتملت على جانبين:
جانب تنظيري: وهو وضع العلوم، مثل أصول الفقه، الذي قصدوا من ورائه وضع مجموعة من الضوابط لفهم القرآن والسُّنة دون تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وأصول الحديث (مصطلح الحديث) الذي قصدوا من ورائه وضع ضوابط تبقي على عصمة السُّنة من التحريف والنقص والزيادة، ومن علوم اللغة بما تحويه من النحو والصرف والبلاغة التي تأتي خادمة للفهم الصحيح للوحيين (القرآن والسُّنة).
جانب تطبيقي: وهو فهم القرآن والسُّنة من خلال هذه الضوابط السابقة، وتمثل ذلك في الأحكام الفقهية والفتاوى.
وبالجملة، فالتراث الإسلامي تتنازعه طوائف خمس: المفسرون، والمحدثون، والفقهاء، والمتكلمون، والمتصوفة.
موقف المعاصرين
تنقسم مواقف المعاصرين من التراث إلى ثلاثة مذاهب (طرفين ووسط)، هم:
الحداثيون أو التقدميون:
وهذا الفريق يريد أن يهيل التراب على تراثنا الديني كله، وهؤلاء مدارس، منهم متطرفون يريدون أن يهيلوا التراب على كل ما له علاقة بالتراث حتى القرآن والسُّنة؛ ولذلك يحرصون على إطلاق اسم التراث على مكونات الإسلام جميعاً بما في ذلك الكتاب والسُّنة.
وبعضهم يكتفي برفض الإسهامات العلمية التراثية التي قامت على خدمة القرآن والسُّنة، وحجة هؤلاء أن التمسك بالتراث من شأنه أن يعيدنا إلى الوراء، إلى أربعة عشر قرناً من الزمان.
يقولون: نريد أن نعيش يَوْمنا، ونحْيَا في عصرنا؛ عصر العلم والتكنولوجيا، عصر الذرة، والعقول الإلكترونية، وغزو الفضاء، لا في عصر الجمال وقناديل الزيت! نريد أن نعيش مع الأحياء لا في مَقَابر الموتى! نُريد أن نحيا مع الجديد المتحرك، لا في القديم المُتَحَجّر، نريد أن ننظر إلى الأمام، أن نتطلع إلى المستقبل، لا أن نمشي ونحن نتلفت دائماً إلى الوراء!
والسبب الأبرز وراء موقف هؤلاء أنهم لم يقرؤوا التراث، بل سمعوا عنه من خصومه من المستشرقين، فلم يسمعوا عنه إلا الاستبداد والانغلاق والغلو، فعادوه، وصدق الله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩﴾ (يونس)، فجاء تصورهم عن التراث أنه قيد في الأرجل، أو غُلّ في الأعناق.
الماضويون:
أولئك الذين يقدسون التراث بكل مكوناته، فلا فرق عندهم بين نصوص الوحي ونصوص العلماء؛ فما إن يظفروا بقول فقهي منسوب إلى أحد المجتهدين الأقدمين، إلا ويجعلوه في مصاف النص المعصوم؛ كأن النبوة كانت شركة بين النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء!
وفي نقد هذا الاتجاه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح؛ بل هذه المرتبة هي مرتبة الرسول التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥﴾ (النساء: 64)”. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، 3/ 488).
تراهم عند كل نازلة يتلمسون حلَّها فيما قدمه السابقون، لا يطمئنون إلى أي فكر جديد معاصر، فالاجتهاد عندهم مغلق منذ عصور، مهما بدا على اجتهاد قديم من زلل أو قصور، لا يقرون به، ويدافعون عنه دفاع المستميت، فهؤلاء يريدون أن نعيش حاضرنا بأفكار ماضينا كلها دون نظر أو تعقيب، فهم مشدودون إلى التراث بقوة كأنها السحر، ولسان حالهم بل مقالهم: لم يترك الأول للآخر من تعقيب!
المنصفون:
وأولئك عرفوا حق أسلافهم، وقيمة إنتاجهم الفكري، وآمنوا بأن إهمال هذا البحر الزاخر من العلوم هو كتبديد الثروات المادية الموروثة عن السابقين، وربما أشد.
لكنهم يعلمون أن التراث منه ما هو معصوم، وهو –على مذهب المتساهلين في إدخال القرآن والسُّنة فيه- «القرآن، وصحيح السُّنة، وفهم الأمة القطعي لهما»، ومنه ما هو غير معصوم، وهو فهموم العلماء للنص المعصوم، فهذا الأخير يحتوي الحق والباطل، والصواب والخطأ، والسمين والغث، والجيد والرديء.
اتباع واع
يقوم أصحاب هذا الاتجاه بالترجيح بين ما استندت إليه الأقوال من أدلة وتعليلات وتوجيهات، انطلاقاً من أن الآراء الفقهية ليست سواء، بحيث نختار منها ما نشاء للفتوى والقضاء، وندع منها ما نشاء؛ بل منها ما هو جدير بالاختيار حسب ميزان التمحيص والترجيح، ومنها ما هو جدير بالطرح والإهمال حسب هذه المعايير؛ فمن هذه الاجتهادات ما وافق الصواب، ومنها ما جانبه الصواب.
وقل مثل ذلك في تفسير القرآن وشرح السُّنة والتصوف، ففي علم التصوف شطحات في الفكر والتصوير؛ كالحلول والاتحاد، وأخرى في السلوك والعمل؛ كالمبالغة في الزهد والتوكل، تنافي وسطية الخلق الإسلامي.
وفي التفسير إسرائيليات وقصص وخرافات تنافي هدايات القرآن وسطوته على النفوس.
وفي الفقه أقوال مبناها على الأعراف التي تغيرت، أو مردُّها إلى الاستقراء الخطأ كالقول بأن الحمل يمكث في بطن أمه سنتين، وأربع سنوات، وخمس سنوات!
كما يؤمن أصحاب هذا الاتجاه أن ثمة اجتهادات في التراث الديني قد تجاوزها الزمن، وكشف الزمان عما لم يكن يعرفه السابقون؛ فقد أدوا ما عليهم حسب إمكانات عصرهم، ولا يضيرهم بحال ظهور مخبوء كان يضن الزمان عن كشفه وقتئذ.
وهذا واحد من الأمثلة التي يمكن أن يستشهد بها في هذا المقام لواحد لم يختلف الأولون والآخرون على إمامته وعلمه وحدة ذكائه، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان سبب طلب غسل الذنوب بالبرد والثلج في الحديث المعروف: “واغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد”؛ هذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، والبرد يعطي قوة وصلابة، وما يَسرُّ يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور بارداً ودمع الحزن حاراً؛ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب.
فهل يضير شيخَ الإسلام ابن تيمية ما كشف عنه العلمُ بعد سبعة قرون من مماته أن “الثلج” من المزيلات الحسية لبعض الأوساخ، التي لا يزيلها غيره!
__________
الهامش
(1) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 295).