ثمة افتراض شائع أن تحقيق النصوص هو «علم الرجال»، والقائلون بذلك يستندون إلى أن النساء لم يتركن كبير أثر في هذا العلم، وأن جل إسهاماتهن تنحصر في تحقيق بعض الأطروحات الجامعية، وهو في ميدان تحقيق النصوص باب ضيق جداً؛ لأن الأصل في تلك الأطروحات الدراسة، ثم يأتي نشر النصوص ملحقاً بتلك الدراسة وذيلاً لها.. بإمكاننا تفسير ضعف الحضور النسائي في تحقيق النصوص على ضوء العاملين التاليين:
الأول: تأخُّر تعليم النساء العربيات، وهو العامل الرئيس الذي عرقل ارتيادهن مجالات المعرفة المختلفة وليس التحقيق فقط، ولكن على الجهة المقابلة جاء دخول الدارسين العرب مجال التحقيق متأخراً في أوائل القرن العشرين، وقد كان حكراً على المستشرقين دون منازع، ولهم فضل السبق في إخراج عيون التراث الإسلامي خلال القرون السالفة.
والثاني: يتعلق بعلم التحقيق الذي يتطلب جهداً شاقاً ومراجعات كثيرة في الكتب والمصادر، ومعرفة التعامل معها واستنطاقها، ثم هو عمل يحتاج إلى صبر شديد ودربة على قراءة المخطوطات وفك طلاسمها، ومقارنة نسخها، وإعداد الفهارس، «وكل ذلك مما لا يقوى عليه ولا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال»، كما يقرر د. محمود الطناحي، رحمه الله.
ورغم ذلك، لست أذهب إلى القول: إنه علم مقصور على الرجال؛ وذلك لوجود بعض المحققات اللواتي حققن إنجازات ملموسة في تحقيق التراث، وسوف أقدم هنا بضع نماذج توضح العناء الذي كابدته النسوة في هذا المجال.
وقد تم اختيار هؤلاء النسوة وفق عدة ضوابط:
– الانحدار من مناطق جغرافية مختلفة ومن أجيال متباينة، بحيث تبدو الباحثات جزءاً من ظاهرة ممتدة زمانياً ومكانياً.
– وقوع جهودهن خارج دائرة الأطروحات الجامعية.
– انصباب اهتمامهن على التراث الإسلامي دون سواه.
عائشة عبدالرحمن.. والذود عن التراث
ولدت عائشة عبدالرحمن (1913 – 1998م) بمدينة دمياط، ونشأت في بيت علم لأب أزهري، وحفظت القرآن الكريم في كتَّاب بلدتها، وحصلت من المنزل على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929م بتفوق، ثم نالت شهادة الثانوية العامة بعدها بثلاث سنوات، والتحقت بالجامعة المصرية، وعقب تخرجها في قسم اللغة العربية عام 1939م اتجهت لمواصلة دراساتها العليا ونالت درجة الدكتوراه عام 1950م، ثم عملت بالتدريس الجامعي في تسع دول عربية، وتخرج على يديها عدد كبير من الدارسين.
جاء دخول بنت الشاطئ مجال التحقيق بعيد أزمة عنيفة تعرض لها التراث الإسلامي في العشرينيات بصدور كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وقد كان القول بانتحال الشعر الجاهلي يفضي لا محالة إلى التشكيك في المرويات الأخرى التي وصلت إلينا من عصر التدوين كنصوص السُّنة النبوية والسيرة الشريفة وكتب تاريخ الصحابة وعلوم الإسلام كلها، وهي القضية التي أزعجت الشيوخ والعلماء الذين انبروا للدفاع عن هذا التراث، وانكبوا على تحقيقه وإبرازه، وقد تابعت عائشة عبدالرحمن نهج الأشياخ وانكبت على التراث، ووجدت ضالتها عند علماء الحديث فيما أصّلوه من قواعد توثيق المرويات الشفهية وفحص الأسانيد، ووقفت عند كتاب «مقدمة ابن الصلاح»، ورأت أنه جدير بالخدمة فعكفت على تحقيقه ونشره(1) ثم ألحقت به «محاسن الاصطلاح» للسراج البلقيني.
أما تحقيقاتها الأدبية واللغوية فأبرزها «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري التي حصلت بها على جائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق النصوص، وكتاب «الصاهل والشاحج» وهو أيضاً لأبي العلاء، وتحقيق الجزء الثالث من «المحكم في اللغة» لابن سيده.
سكينة الشهابي.. التراث مشروع معرفي
تعد السورية سكينة الشهابي (1933 – 2006م) نموذجاً لباحثة تمركز مشروعها الفكري حول التراث وتحقيقه، ولذلك ليس لها أعمال معرفية سوى تحقيقاتها المنشورة.
ولدت سكينة الشهابي في مدينة الباب بحلب عام 1933م، وتوفي والدها وهي في الخامسة من عمرها، ومع فقدان العائل لم يكن ممكناً أن تحظى بتعليم نظامي، لكنها كانت تواقة للعلم، ولما عاينت أسرتها ذلك شرعت في تلقينها مبادئ القراءة والكتابة وتحفيظها ما تيسر من القرآن الكريم، فأجادت القراءة والكتابة في فترة وجيزة، وكانت تلتهم كل ما يقع تحت يديها من كتب ومجلات وتمضي في ذلك ساعات طوال يومياً، وشجعتها الأسرة على التقدم لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية بدراسة حرة فاجتازتها، ثم تقدمت لاجتياز الشهادة الإعدادية ثم الثانوية بذات الطريقة فأحرزتهما بتفوق.
وأتاحت لها ظروف انتقال أسرتها إلى دمشق الالتحاق بقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، ونالت شهادة التخرج عام 1962م، وفور تخرجها اشتغلت بالتدريس ثم حصلت على وظيفة بمجمع اللغة العربية وانكبت على التراث وتفرغت لقضاياه.
ارتبط اسم سكينة الشهابي باسم المؤرخ ابن عساكر، ولسنا نبالغ إن قلنا: إن علاقتها به تعد نموذجاً لما يجب أن تكون عليه علاقة المحقق بالمؤلف التراثي من معايشة وفهم لحياته ولغته ومنهجه وآرائه، فقد حققت له «تاريخ دمشق»، وهو أهم تحقيقاتها وأكثرها ذيوعاً، وكان من عادتها أثناء التحقيق أن تقدم من حين لآخر مورداً من موارد الحافظ بن عساكر استثارة للهمة ودفعاً للسأم، فنشرت «تلخيص المتشابه في الرسم» للخطيب البغدادي، ويتناول المتشابه من الأسماء وضبطها، كما حققت لابن عساكر أيضاً «المعجم المشتمِل على ذكر أسماء شيوخ الأئمَّة النبل».
ومن تحقيقاتها الأخرى عدا ابن عساكر «طبقات الأسماء المفردَة في الصحابة والتابعين ورجال الحديث» للبرديجي، و«أخبار الوافدين من الرجال على معاوية»، و«أخبار الوافدات من النساء على معاوية» كلاهما للعباس بن بكار، و«تاريخ أبي بشر هارون بن حاتِم»، و«رجال عروة بن الزبير» للإمام مسلم، و«المنتخب من أزواج النبي» للزبَير بن بكار(2).
هند شلبي.. مؤرخة الدرس القرآني
تجسد المحققة التونسية هند شلبي(3) نموذجاً ثالثاً يستمد فَرادته من كونه يتمحور حول موضوع بعينه لا حول مؤلف بذاته، فقد تركزت جهودها ضمن مشروع معرفي محدد ألا وهو التأريخ للدرس القرآني في شمال أفريقيا الذي يروم إلى درء الفجوات والثغرات في تاريخ المعرفة القرآنية، وقد جاءت مؤلفاتها بمثابة حلقات متصلة تدور في فلك هذا المشروع ولا تشذ عنه.
تنتمي هند شلبي لأسرة زيتونية، فوالدها الشيخ أحمد شلبي، أحد مدرسي الزيتونة، وقد حفظت القرآن الكريم في سن مبكرة، ونالت حظاً من التعليم الحديث قبيل التحاقها بجامعة الزيتونة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحصلت على الإجازة في أصول الدين عام 1968م، وواصلت دراستها حتى نالت درجة الدكتوراه الثالثة من كلية أصول الدين عام 1981م، وتعينت كأستاذ لعلوم القرآن بالزيتونة إلى أن تقاعدت.
عاصرت في شبابها فترة حكم الرئيس بورقيبة، وفي عام 1975م اختيرت بمناسبة السنة الدولية للمرأة للتحدث في ندوة عن مكانة المرأة في الإسلام بحضور بورقيبة -الذي كان يفاخر بالتجربة التونسية في مجال حقوق المرأة ويعدها استثناء بين الدول العربية- وبدلاً من كيل المديح للرئيس انتقدت سياسات حكومته النسائية التي تضاد الشرع وتحظر تعدد الزوجات، وفي ختام كلمتها أبت مصافحة الرئيس كما تقضي التقاليد المتبعة.
تعرضت هند شلبي للمضايقات مع صدور منشور حظر ارتداء النساء الزي الشرعي، فاضطرت لخلع الخمار لكنها استعاضت عنه بارتداء السفساري (الزي التقليدي التونسي)، وهو زي فضفاض يحقق الستر المطلوب، وظلت تمارس عملها، حتى اضطرت منذ مطلع التسعينيات إلى الاحتجاب القسري لأسباب غير معلومة -لعلها سياسية- حتى إنها لم تجز نشر بحوثها المخطوطة التي يتم تداولها بين طلاب العلم.
أصدرت هند شلبي خمسة مؤلفات تراوحت بين التأليف والتحقيق في الفترة ما بين عامي 1979 – 1990م، وأول مؤلفاتها هو تحقيق كتاب «التصاريف: تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه» ليحيى بن سلام، الصادر عام 1979م، وهو من الكتابات الأولى في الأشباه والنظائر، بل هو أقدم تفسير تناول القرآن كاملاً بالشرح، إذ هو من القرن الثاني للهجرة، ويعتبر تفسيراً بالمنقول في عمومه(4)، ويعد تحقيقها لكتاب «تفسير يحيى بن سلام» أشهر مؤلفاتها، وهو يشكل حلقة وصل بين تفسير الطبري والتفاسير السابقة عليه، وبنشر هذا التفسير تكون هند شلبي قد سدت الثغرة في تاريخ التفسير خلال هذه القرون الأولى، أما آخر تحقيقاتها فهو «عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل» لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي، وهو في تفصيل قواعد رسم المصحف.
ما نستطيع الخلوص إليه أن النساء وإن دخلن مجال التحقيق متأخراً إلا أنهن أثبتن جدارتهن العلمية، وأثرت أعمالهن حركة نشر وإحياء التراث.
_________________
الهوامش
(1) محمود الطناحي، بنت الشاطئ وتحقيق التراث، الكويت: مجلة العربي، يوليو 1999.
(2) أحمد العلاونة: الباحثة المحققة سكينة الشهابي (1933 – 2006م) رحمها الله.
https://goo.gl/evmgvK
(3) لم نتمكن من تحديد تاريخ ميلادها رغم البحث.
(4) يحيى بن سلام بن ثعلبة (ت 200هـ)، التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه، قدمت له وحققته هند شلبي، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، ص 63.
(*) دكتوراه في التاريخ ومختصة بالقضايا النسوية.