يشير مصطلح «الصحة النفسية» إلى قدرة الفرد على تحقيق أمرين ضروريين لسير حياته؛ الأول: الانسجام مع الذات الذي يحقق الرضا الداخلي، ويكون ذلك غالباً من خلال اتساق قدراته الذاتية مع رغباته وطموحاته، والثاني: تحقيق التوافق مع الآخرين الذين يشكلون دوائر علاقات الفرد الرئيسة (الأسرة، العمل، الجيرة، الأقارب..)، وإن غياب تحقيق أحد هذين الأمرين يؤدي إلى حالة من الاضطراب النفسي لدى الفرد أو ما يعرف بسوء التوافق أو سوء التكيف الذي يعني «ضعف قدرة الفرد على تحقيق علاقات سوية ومُرضية بينه وبين مجتمعه وبيئته بحيث تكفل له التوفيق والنجاح في حياته».
إن مفاهيم الصحة النفسية في الدراسات الحديثة تتمحور بصورة رئيسة حول الخلو من التوتر، وتحقيق الاطمئنان الوجداني، والتفاعل الاجتماعي الإيجابي، فهذه الجوانب الثلاثة تمثل جوهر الصحة النفسية للفرد.
وعلى هذا جاءت الدراسات والبحوث النفسية تقدم من المعارف والنتائج ما يعين الفرد على تحقيق هذه الجوانب الثلاثة السابقة.
سبق التراث الإسلامي –الدراسات المعاصرة- في الاهتمام بالصحة النفسية ووضع أصولاً وقواعد لها، وهو انعكاس لاهتمام القرآن ذاته بالنفس (وردت ما يقرب من 270 مرة في آياته الكريمة).
وأول ما نلاحظ هذا المفهوم نجده عند مسكويه (ت421هـ)، الذي طرحه تحت مصطلح «صحة النفس» على غرار «صحة الأبدان».
يذكر مسكويه في المقالة السابعة تحت عنوان «الأمراض الغالبة على النفس وعلاجها»(1): رد الصحة على النفس إذا لم تكن حاضرة، أن النفس تمرض وعلاجها أي رد الصحة التي غابت عنها يكون بمعالجة أمراضها التي طرأت عليها، ويرى أن نبدأ بالأكثر أثراً وأعظم خطراً ثم ما دونه من الأمراض الأكثر جناية ونكاية على النفس.
ويطرح أهم مؤشرات «صحة النفس» في توافر أربع فضائل، هي: الحكمة، والشجاعة، والعدالة، والعفة وما يتفرع عنها ويكثر، فإذا توافرت هذه الأربع كانت النفس في أعلى درجات توافقها وتفاعلها واطمئنانها الوجداني.
وفي ضوء ذلك، عدّد أعظم الأمراض التي تصيب النفس، ووضعها في ثمانية متقابلات –لهذه الفضائل- وهي: السفه والبله، التهور والجبن، الشره والخمود، الجور والمهانة(2).
وكما يظهر من هذه المؤشرات والمعايير لصحة النفس ومرضها، أنها تتضمن ثلاثة أبعاد هي مكونات النفس الإنسانية، وهي: الجانب المعرفي، الوجداني، النزوعي والسلوكي.
فالصحة النفسية تبدو في الشخصية المتكاملة المتوافقة فيما بينها –أي الخالية من أكبر قدر من الصراع الداخلي أو التوتر والاضطراب- الذي ينتج بالضرورة عن معرفة واضحة بالنفس، ويظهر في سلوكها الاجتماعي الإيجابي المتوازن الذي يتواءم مع السوية بالمعنى العام.
إن تميز التراث هنا –بالإضافة إلى السبق في طرح المفهوم- يبدو أيضاً في عظم مؤشرات الصحة النفسية التي وضعها، التي تعد مثلاً أعلى معيارياً تحاول النفس الوصول إليه في ضوء برامج التربية الإسلامية التي تتم في المجتمع المسلم عبر وسائط الأسرة والمدرسة والمجتمع؛ فالتوافق بين هذه الوسائل في بناء الشخصية السوية الفعالة أمر يعول عليه التراث النفسي بصورة واضحة لا لبس فيها.
السعادة.. وصحة النفس
«السعادة» مرتكز آخر لصحة النفس؛ فالإنسان يسعى بطبيعته وفطرته إلى تحقيق كل ما يحصل له وما يرضي نفسه، ليشعرها بالرضا الذي تتحقق به «السعادة»، وأن خلاف ذلك هو الشعور بالسخط الذي يجلب على النفس توتراً وكآبة وحزناً يفقدها التفكير الراشد والاستقرار الوجداني والفاعلية الاجتماعية، ومن ثم فإن حركات الإنسان وسعيه في غالبه إنما يكون لتحقيق «السعادة» وتجنب «الضرر».
ولا يخالف التراث النفسي الإسلامي هذه الفرضية النفسية؛ بل يؤكدها، أي على مرتكز «السعادة» باعتباره ضرورياً لصحة النفس، ولكنه يعطي مضموناً متمايزاً عن مفهوم “السعادة” في الرؤية المادية، التي ربطت بين السعادة والجانب الحسي المادي في الإنسان وتحديداً رادفت بين “السعادة” و”اللذة” في كل أشكالها المادية الحسية فقط، وبكل وسائلها المشروعة وغير المشروعة.
جاء مفهوم السعادة معبراً عن الرؤية التوحيدية للحياة بكاملها التي تعد النفس جزءاً رئيساً فيها، بل المكون الأول لهذه الحياة، فيكتب الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) مصححاً لهذا المفهوم وموضحاً لأركانه تحت عنوان «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين»، ويقصد بالسعادتين هنا: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، ليس على سبيل الفصل، وإنما على سبيل الاتصال والحفز بينهما.
ويوضح في ذلك المقصود بقوله: “ما أحد إلا هو فازع إلى السعادة يطلبها بجهد، ولكن كثيراً ما يخطئ فيظن ما ليس بسعادة في ذاته أنه سعادة فيغتر بها، إن النعم الدنيوية إنما تكون نعماً وسعادة متى تُنُولت على ما يجب وكما يجب، ويُجرى بها على الوجه الذي لأجله خُلقت، وذلك أن الله تعالى جعل الدنيا عارية ليُتناول منها قدر ما يتوصل به إلى النعم الدائمة والسعادة الحقيقية”(3).
ويقسم الناس في تحصيل السعادة إلى فريقين؛ فريق تناولوها على الوجه الذي جعلها الله لهم فانتفعوا بها فصار لهم نعمة وسعادة؛ ﴿لِّلَّذِينَ أَحسَنُواْ فِي هَذِهِ ٱلدُّنيَا حَسَنَةوَلَدَارُٱلأخِرَةِ خَير وَلَنِعمَ دَارُ ٱلمُتَّقِينَ ٣٠﴾ (النحل)، وفريق تناولوها لا على الوجه الذي جعلها الله لهم فركنوا إليها فصار ذلك نقمة وشقاوة فتعذبوا بها عاجلاً وآجلاً؛ ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ٥٥﴾ (التوبة).
إن الارتباط بالغيب جزء رئيس في استقامة الفرد الداخلية والخارجية، فلا نبذ للذة التي يسعى إليها إلا إذا انحرف الإنسان في طريق كسبها وتحصيلها، فهي في هذا الوقت -وكما هو مشاهد- تنقلب عذاباً لصاحبها، بالمعنى النفسي والاجتماعي كذلك، ولعل هذا الارتباط أو بالأحرى غياب هذا الارتباط (الغيب وحياة الإنسان المعاصرة) جعل الإنسان المعاصر يدخل في حياة الضنك؛ فعلى الرغم من تطور وسائل الرفاهية، ووسائل السيطرة على الطبيعة والاكتشافات العلمية الواسعة التي ظن الإنسان أنها ستحقق له السعادة كل السعادة وتجنبه التوتر بكل أشكاله، وتضمن له حياة اجتماعية خالية من المشكلات والحوادث، فإن العصر الذي نعيشه من الناحية النفسية هو أسوأ عصور الإنسان على الإطلاق؛ حيث دخل الإنسان في أتون الآلة التي صنعها، ولم يصبح سيداً في الكون بل ترساً ضمن آلاته التي لا تنتهي.
ويسجل العصر الحديث أعلى نسب التوتر الإنساني على مر التاريخ، وكذلك أعلى نسبة جرائم في الكم والتنوع، وأعلى نسبة من الاضطرابات السلوكية والنفسية، وأعلى حوادث اجتماعية، وتفكك روح الفرد والمجتمع.. كل ذلك أدخل الإنسان المعاصر في حياة الضنك التي غاب عنها “الغيب” بصورة واضحة وملموسة، ومن ثم غابت السعادة الحقيقية عن الإنسان وغاب كذلك استقرار الوجداني والنفسي.
تدبير «صحة الأنفس»
يقدم أبو زيد البلخي (ت 322هـ) منحى آخر في رعاية الصحة النفسية، وعوامل تحققها؛ فيكتب كتابه الرائد «مصالح الأبدان والأنفس»(4) في مبلغ الحاجة إلى تدبير مصالح النفس: «إن الإنسان لما كان مركباً من بدن ونفس صار يوجد له من كل منهما صلاح وفساد، وصحة ومرض، وسقم وأعراض تعرض له في صحتهما، ومما يعرض على النفس من أمراض: الغضب والغم والخوف والجزع وما أشبهها».
ويؤكد أنه لا يوجد إنسان لا يمر بهذه الأعراض النفسانية، فإن الإنسان مدفوع في أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها؛ إذ ليس يخلو في كل أحواله من استشعار غم أو غضب أو حزن أو ما إلى ذلك من هذه الأعراض، ولكنه يشير إلى الفروق الفردية النفسية بين الناس في مقدار التأثر بهذه الأعراض، إلا أنه ليس ما قد يصل إلى كل واحد من الناس قدراً واحداً؛ فإنهم مختلفون فيما يحصل إليهم من هذه الأعراض، إذ كل واحد يأخذ منها بحسب مزاجه وأصل تركيبه في القوة والضعف(5).
أما تدبير صحة النفس -أي إجراءات المحافظة على صحة النفس والتخطيط العلمي والفكري لها- فيشير البلخي إلى أن جوهر هذا التدبير تجنب تعرض النفس للمتغيرات التي يمكن أن تسبب لها الاضطرابات الوجدانية والأعراض النفسانية -أي مبدأ الوقاية- فيجب لمن أراد حفظ صحة نفسه أن يبدأ بحفظ صحتها وسكون قواها، وأن يجتهد في استدامة هذا السكون حتى لا يهيج منها هائج؛ أي أن تصان النفس عن الأعراض الخارجة التي هي ورود ما يرد عليها من الأشياء التي يسمعها الإنسان أو يبصرها فتقلقه وتضجره، وتحرك منه قوة غضب أو فزع أو غم أو خوف أو ما أشبه ذلك(6).
كما يشير إلى مبدأ الواقعية في التوقعات الدنيوية -لأن الفجوة بين التوقعات والطموحات عامل آخر من عوامل القلق والتوتر الذي يصيب الإنسان- ومضمون هذا المبدأ النفسي هو «أن يُشعر الإنسان قلبه وقت سلامة نفسه، وسكون قواها ما أسست عليه وجبلت أحوال الدنيا من أن أحداً لا يصل فيها إلى تحصيل إرادته ونيل شهواته على سبيل ما يتمناه ويهواه من غير أن يشوب كلاً من ذلك شائبة تنغص وتكدر، أو يعرض له عارض أذى أو مكروه»(7).
ويسوق مبدأ الواقعية من وجه آخر وهو مراعاة السنن الكونية؛ «فلا يطلب من دنياه ما ليس في أصل بنيتها، ولا غير ما جرت به العادة، وهو ما يتطلب الاستقصاء في وجوه المعاملات والمعاشرة لمعرفة ذلك، لمن هو فوقه أو مثله أو دونه، ويتغافل عن كثير من الأمور التي ترد عليه بخلاف مراده ومحبته ما وسعه ذلك وجاز أن يغضي عنه».
أما المبدأ الثالث الذي يسوقه البلخي لتدبير صحة النفس فهو «مناسبة مقاصد الإنسان ومطالبه بمقدار تحمل النفس الخطوب؛ «فإذا عرف الإنسان طبيعته، ومنتهى قوتها، ومبلغ استقلالها بالأمور؛ بنى على ذلك تدبيره في مطالبه ومقاصده، وتجنب وجوه المخاطرات وأنواع التغريرات، وما يتعاطاه ذوو الأنفس القوية والصدور الواسعة والطبائع المستحصفة، وجعل غرضه فيهما غرض من يحصّل سلامة النفس».
وهكذا يقدم البلخي مجموعة رائدة من المبادئ التي تعظم المحافظة على الصحة النفسية، يربط فيها بين صحة البدن وصحة النفس –وهو ما توصلت إليه الدراسات العلمية الحديثة- ويقدم مبدأ المحافظة/ الوقاية على مبدأ المعالجة، ومبدأ معرفة النفس ومعرفة قدراتها ومطالبها، وتجنيب الإنسان التعرض لمواضع التوتر يمثل رؤية لدور المجتمع في الصحة النفسية للفرد بما ينعكس عليهما بالنماء والزيادة في الفعالية الاجتماعية.
الصداقة والصديق
مما تفرد التراث النفسي الإسلامي في طرحه –أيضاً- العلاج الاجتماعي للنفس الإنسانية، وكتب في ذلك عن «الصداقة والصديق» ودورهما في تخفيف سوء التوافق والتكيف، واعتبر أن الصداقة بجوانبها المختلفة؛ المحبة والتواد واللفة والأنس والتعاون وقت الحاجة، كل ذلك عاملاً من عوامل صحة النفس وتهيئتها لأداء أدوارها الفردية والجماعية بصورة فاعلة وإيجابية.
ومن هذا مثلاً ما كتبه أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ) في الصداقة والصديق، ومن هو الصديق وأحواله مع صديقه وما بينهما من إرادة وإيثار وقصد ومحبة ومرضاة(8).
وهكذا يقدم التراث نماذج للعلاج الاجتماعي لصحة النفس؛ فالمناخ الذي تنشأ فيه النفس الإنسانية جزء من علاجها وسويتها، كما أنه جزء من مرضها وانحرافها، إذا وجدت عوامل الأول استقامت ونجت ونجحت داخلياً واجتماعياً، وإذا وقعت في الثانية غرقت وانحرفت وفشلت ذاتياً واجتماعياً.
وفي الختام، فما يزال في التراث النفسي للأمة رؤى متجددة لم تُكتشف بعد، وهذا يرجع من وجهة نظرنا إلى ضعف ثقة الباحث المسلم في ذاته الحضارية من ناحية، وإمكاناته العقلية من ناحية أخرى التي تجعله يستسهل الاستيراد دون النظر في خزائنه الملأى بالكنوز المعرفية النفسية التي تحتاج إلى ثقة الباحث في قدرته على الاكتشاف، وفي ثقته في جدارة تلك الثروة في الاهتداء والتطوير لمعارفه المعاصرة(9).
______________
الهوامش
(1) أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 201.
(2) المرجع السابق، ص 202.
(3) الراغب الأصفهاني: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، ص57.ِ
(4) أبو يزيد البلخي: مصالح الأبدان والأنفس،
(5) المرجع السابق، ص115.
(6) المرجع السابق، ص 199.
(7) المرجع السابق، ص 119.
(8) أبي حيان التوحيدي، المقابسات (المقابسة 106).
(9) من أهم المشروعات المعاصرة لاكتشاف التراث النفسي ما قدمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تحت عنوان “علم النفس في التراث الإسلامي” في 4 أجزاء، ط2009، يتضمن عرضاً وتكثيفاً لنحو 300 كتاب ومقال من أمهات التراث العربي الإسلامي المطبوع الذي يعطي الفترة من القرن الأول الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري، وتنوعت الموضوعات التي تناولها هذا المشروع من آداب وفنون وفلسفة وتصوف وأخلاق وفقه.. حيث كانت موضوعات علم النفس تتداخل مع هذه المجالات.
(*) أستاذ أصول التربية بجامعة دمياط – مصر.