عندما أجهش الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي على شاشة التلفزيون وهو ينعى الرئيس الشهيد محمد مرسي، كانت الأبواق المأجورة المعادية للإسلام والأخلاق والحرية تتجاوز التقاليد الإسلامية والأعراف الشعبية التي تفرضها حالات الموت، فراحت تسبّ الشهيد، وتنال منه، وتكذب على الله والناس، وتنفذ تعليمات بائسة بالتشويش على مشاعر الأمة التي اهتزت في كل مكان لاستشهاد الرئيس، لدرجة أن إحدى المذيعات قرأت الخبر الذي أرسل إليها حول الحادث، واختتمت بجملة خارج السياق: “تم الإرسال من جهاز سامسونج”! في إشارة لا تخفى على الجهة التي أرسلته!
أياً كان الخلاف السياسي أو الاجتماعي أو العقدي بين الناس في المجتمع المسلم، فهو يتوقف عند جلال الموت، أياً كان الميت وأياً كان انتماؤه.
أحزنني أن القوم يعيّرون المسلمين ويتهمونهم دائماً في حملات محمومة أنهم لا يعزّون الكفار والنصارى واليهود، ويرتبون على ذلك أحكاماً جائرة وظالمة، وهو كلام له غرض وهوى، فإذا افترضنا جدلاً أن محمد مرسي واحد من هؤلاء فلماذا لا يسمحون بالتعزية فيه، والمشاركة في تشييع جنازته أو الصمت على الأقل احتراماً لجلال الموت؟
والأغرب أن وكالات الأنباء حملت خبر اعتراض نائبة في برلمان عربي على “قراءة الفاتحة والترحم على مرسي”، وطالبت النائبة العلمانية بعدم “أخونة” البرلمان، ودعت إلى تصنيف من دعا إلى قراءة الفاتحة وكتلته حركة إرهابية، قراءة الفاتحة “أخونة” و”إرهاب”؟ أي خلل أصاب العقل العربي؟ وأيّ غلّ يحكم خصوم الإسلام؟
الأعجب من هذا أن يتصدى للحديث عن رحيل الرئيس الشهيد واحد من علماء السلطان الذي لم يتورع في نفاقه الفج عن وصف بعض المسؤولين بالأنبياء، فيقول عن مرسي رحمه الله: “لا شماتة في الموت، مفيش شماتة بس في ارتياح وراحة قلب”!
ما راحة القلب التي يقصدها عالم السلطان المنافق؟ هل كان الرجل يقتل الأبرياء؟ هل كان يحشر عشرات الآلاف في السجون؟ هل كان يحارب كل من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ويطارده؟ هل كان يخص نفسه أو أناساً بعطايا الدولة وأموالها؟
لقد ظل في مسكنه الخاص طوال فترة رئاسته، ولم ينتقل إلى القصر، وكان يمضي بسيطاً بين الناس، ولم يتقاض مليماً واحداً من منصبه الرئاسي، وكان معاونوه من المتخصصين الذين يستدعيهم لدراسة بعض القضايا أو التشاور في بعض الأمور لا يشربون في القصر الجمهوري غير الشاي فقط، وتصدق بعرضه فلم يحاسب السفلة والأوغاد الذين كانوا ينالون منه في الإعلام والصحافة، ولم ينم ذات ليلة إلا بعد أن أصدر قراراً بقانون ليمنع حبس صحفي سافل أساء إليه إساءة بالغة!
من أي شيء يستريح قلب عالم السلطة وفقيه الشرطة الذي طوع الإسلام لإرادة المستبدين وأعداء الحرية والإسلام؟
لقد عومل الرئيس الشهيد معاملة لا تليق بإنسان فضلاً عن رئيس انتخبه الشعب في أول انتخابات نزيهة عرفتها مصر وآخرها أيضاً، واحتُجز، كما قالت المفوضية العليا لحقوف الإنسان، في حبس انفرادي لفترات طويلة، وهناك مخاوف بشأن ظروف احتجازه، وقال المتحدث باسم المفوضية روبرت كولفيل: أي وفاة مفاجئة في أثناء الاعتقال يجب أن يتبعها تحقيق سريع وحيادي وشامل وشفاف من جانب هيئة مستقلة لتوضيح سبب الوفاة.
لقد وصفت جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة!) التي ينتمي إليها مرسي الوفاة بأنها «جريمة مكتملة الأركان» وطالبت بإجراء تحقيق دولي، والسؤال هو: هل يستجيب أحد لإجراء هذا التحقيق؟ لقد أعلنت إدارة ترمب أنها علمت بوفاة مرسي، وليس لديها أي تعليق، أي إنها توافق ضمناً على إغلاق ملفه! فأمريكا والغرب واليهود يريدون طيّ ملف الإسلام وكل ما يمت إليه بصلة، ولا يجدون حرجاً في استئصال الحرية في كل بلاد المسلمين؛ لأن الحرية أو الشورى أو العدالة تزعجهم وتسبب لهم حرجاً وصداعاً يتطلب المواجهة، وهم ممتنّون لمن يوفر عليهم هذ المواجهة!
صرح المحامي عبدالمنعم عبدالمقصود، الموكل عن مرسي: «الرئيس مرسي منذ فترة مريض وتقدمنا كثيراً بطلبات لعلاجه بعضها تم الاستجابة له وبعضها لا».
لقد تمنى الناس أن يعامل مرسي في معتقله مثل أي محكوم، ولكن محكومي المخدرات كانوا أسعد حظاً منه، فهم يستطيعون رؤية ذويهم كل أسبوع، ويمكنهم الحصول على ما يريدون من أطعمة وأغراض بطريقة رسمية أو غير رسمية، أما مرسي فقد ظل منفرداً في محبسه، ولم يلتق بأحد طوال سنوات ست إلا مرتين أو ثلاثاً، حيث رأي بعض أفراد أسرته.
في موضوع يحمل عنوان “مبارك يستمتع بتقاعده بعد 30 سنة من الدكتاتورية.. ومرسي الديمقراطي يموت سجيناً”، قارنت مجلة “إيكونوميست” بين الرئيس المنتخب بطريقة ديمقراطية ومبارك الذي ظل بالقوة على سدة الحكم ثلاثين عاماً، وذكرت أن القضية ضد محمد مرسي التي مضى عليها ستة أعوام أخذت منذ وقت طويل منحى يشبه العالم الكابوسي للروائي فرانز كافكا، ففي كل أسبوع كان على الرئيس الأول المنتخب ديمقراطياً الذي أطيح به بانقلاب عام 2019 الظهور أمام المحكمة لمواجهة اتهام أو آخر، فقد اتهم بالتجسس وسرقة مواش والتعذيب، ولم يعد المصريون يهتمون بقضيته، إلا أن عجلة العدالة المصرية المعيبة ظلت مستمرة ثم توقفت فجأة، فقبل الساعة السادسة مساء في 17 يونيو أعلن “التلفزيون الرسمي” وفاته من نوبة قلبية أثناء المحكمة، وكان عمره 67 عاماً.
وتشير المجلة إلى سلفه مبارك، الرجل الذي أساء حكم مصر حين واجه المحاكمة بعد الثورة، لكنه لم يعتقل في سجن طرة ولا في سجن عسكري بل كان يقيم في مستشفى فاخر، ويزوره كل من يريد ويحصل على كل ما يريد.
تقول “الإيكونوميست”: مرسي في سنواته الأخيرة وحيداً في السجن؛ مقطع أخير تراجيدي في الثورة المصرية، وهامش في بلد عاش سنوات طويلة تحت حكم الدكتاتورية.
المفارقة أن الرئيس الشهيد ردد قبل انتقاله إلى بارئه بدقائق أنه متمسك ببلاده حتى وإن جارت عليه، مؤكداً عدم البوح بأسرار بلاده حتى مماته، وتلا البيت الشهير:
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام!
المفارقة الأخرى أن المسلمين في أرجاء العالم صلوا عليه صلاة الغائب، عدا وطنه الذي جار عليه وعلى الإسلام، وبعض الدول العربية التي تخشى الضغوط والعقاب، فقد أصدر النظام في مصر قراراً بحظر صلاة الغائب في أي مسجد، ومنعتها بعض الدول العربية لعدم الإحراج، ومع ذلك فقد تمت الصلاة عليه في المسجد الأقصى الأسير، الذي عرف صورة مرسي أول رئيس عربي ترفع عليه، وعلى امتداد المعمورة كان المسلمون يؤدون الصلاة على روح الشهيد، الذي ارتقى في حرب ضروس شنها أعداء الحرية والإسلام، بعد أن حرم من الدفن في قريته حسب وصيته، ولم يشيعه إلا أولاده والمحامي الموكل عنه!
رحم الله الشهيد الذي قال: “لا تقتلوا أسود بلادكم فتقتلكم كلاب أعدائكم”!
وليتنا نفيء إلى الحق ونفهم أن أعداء الحرية والإسلام لن يبقوا على الموالين لهم ولا المعارضين.