في رحلةٍ من أصعب الرحلات، واختبار هو أعظم الاختبارات، وتجربةٍ لا تسمح بإعادة الكَرّات، لا تهدينا الحياة كل ما نتمنى بل أحياناً تعطينا آخر ما توقعنا، ولا يصحَبُنا فيها إلا لطف الله.
يغيب من أحببنا تارةً ويحضرون تارةً أخرى، ونجد أبوابنا تطرقها وحدة وقد تؤنسها صُحبة؛ ولا حالٌ ثابت ولا ظرفٌ دائم.. فأين الأنسُ إن ضاقت الدُنـا، وأينَ الحبُ إن غابَ المُحبينَ؟
الأنـس بالله
هو قريبٌ فلما البـُعد، كريمٌ فلما القلق، موجودٌ فلما الوَحشَة، معينٌ رزاقٌ فلما التِـيه!
أنبحث عن أنيسٍ سوى الخالق! لا والله ما اهتدينا ولا أصبنا.
الروح ليس لها إلا طريق واحدٌ معروف؛ منها إلى خالقها ومن خالقها إليها، في تواصلٍ مستمر وحبلٍ لا ينقطع، فتتعلق بالحي الذي لا يموت، الذي بيده الملك والملكوت، العالمُ فلا يعزِبُ عنه ما يُدَبـِّر النُطق أو يخفيه السكوت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العباس رضي الله عنه “يا غلام، إني أُعَلِمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”.
وهنا يكمن لُبُّ المَعيةِ والأنس، الشعور بوجود الله في كل الأوقات والأحوال، وسؤاله في صغير الأمور وكبيرها، في السعادة والشقاء، في العسر واليسر، والإفضاء له بالهَمِ والبلوى والاستعانة به على ما لا نطيق ونحتمل.
والتواصل مع الله وشعور المَعِّية تؤصله شعائر الإسلام وعباداته؛ فخمسة أوقات رسمية يتواصل بها العبد مع ربه في صلاته، وقرآنٌ كريمٌ يجود لمن أراد الارتواء بكلام الله، وأدعية الأحوال التي ترافق المسلم خلال يومه مستعينًا بربه على كل صغيرة وكبيرة؛ بداية من الاستيقاظ من نومه والخروج من بيته وطعامه وشرابه وارتداء ملابسه وسفره وعمله ومذاكرته ومرضه وتَسَوُقه ونومه، هذا فضلاً عن باب الدعاء والمناجاة المفتوح دائمًا، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186}) (البقرة).
فمن اتخذ غير الله أنيساً لم يسعد، ومن استعان بغيره معيناً لم يوفق، فهو الأنيس الواحد الأول، وما دون ذلك فهو مؤجل.
الأُنس بالـذات
وهو أن يكون الإنسان أنيس نفسه، إن الذات البشرية معقدة والولوج بها وفهم حالتها ليس سهلًا، وليس أسعدُ من إنسان علم ذاته ومُبتغاها، وروض نفسه ومُشتهاها، ودرس قوته ومقوماته، وفهم ضعفه ونقاطه، واستأنس بنفسه قبل غيره.
وفَهمُ الذات لا يَتأتى يومًا وليلة، إنما هي حالة يعيشها الإنسان، فهو دائم التركيز مع حركاته وسكناته، صمته وكلماته، فكره وسهوه، جده وهزله، غايته ومبتغاه، ليصل لحالة فهم عميق لنفسه ومكنوناتها، ويخلق لغة اتصال بينه وبين ذاته لا يفهمها إلا هو ولا يقدر علي ترجمتها أحد، فتصبحَ ذاتُه صديقًا وقت الضيق، أنيسًا وقت الوحدة، مأوي وقت العزلة.
تتركز معظم مشاكلنا في عدم فهم ذواتنا، لم نعطِ فرصة لأنفسنا للتأمل والتفكير الدقيق بما نريد ونبتغي.. مرحلة التعرف على الذات مع ما تتطلبه من وقتٍ؛ هي مؤنسة ممتعة فضلاً عن ما بعدها من الصداقة الحقيقية مع النفس.
الاستـئـناس بالآخرين
لن يستمتع الإنسان بعلاقته مع الآخرين ولن تثمر هذه العلاقات إلا إذا كان الإنسان صديق نفسه أولاً وهو ما أوردناه في النقطة السابقة، حينها ستكون هذه المعاملات والعلاقات كشَوطٍ إضافي للاستئناس وليس أساسي، بل ستصبح له أهداف أخرى مثل توطيد علاقات اجتماعية وبناء علاقات جديدة؛ واجتذاب أطراف الحديث وفتح مواضيع شيقة والظهور أمام الناس كمتحدث جيد واجتماعي ناجح.
إن العلاقات الاجتماعية بمن حولنا من أسرة وعائلة وأصدقاء وزملاء عمل؛ جميعها في غاية الأهمية للإنسان ولن تكتمل صورته بدونها، رغم ما بها من صعوبات ومواجهات وخلافات أحيانًا.
فالانخراط بين الناس له ما له من الضرائب، لكن علاقة الإنسان الجيدة بنفسه تجعله غير عابئ بمعاملة سيئة لأحدهم، واثق من نفسه إذا تعرض للانتقاد، مدافع عن فكرته ومبادئه إذا هاجمها أحد، تجده ملتمسًا للعذر، قابلاً للنصح، شاكرًا للمدح، خادمًا للغير، مدركًا لحدود العلاقات وأخلاق المعاملات لأن علاقته بنفسه جيدة وهذا هو المطلوب، إذاً فما أوردناه في النقطتين السابقتين هما من عوامل نجاح الاستئناس بالآخر.
وختاماً.. فإن الاستئناس ما هو إلا قرار داخلي، لا يعتمد علي أشخاصٍ إن حضروا استأنسنا وإن غابوا استوحشنا، بل هو قرار وشعور يصاحبنا في كل الظروف والأحوال، فخذوا قراركم حتى تستأنسوا..