إنها الرحلة المباركة لكل مسلم ومسلمة، رحلتنا إلى العلم، تصحبنا فيها ملائكة الرحمن وتظلنا بأجنحتها، وكلما سِرنا في طريقنا إليها تنزلت علينا من الله السكينة وغشيتنا رحمته الواسعة، هي السبيل إلى شهادة العز والشرف والمنزلة، حيث يذكر الله تعالى في الملأ الأعلى عبده هذا السائر إليه بإخلاص وجِدّ؛ ويسهّل له طريقه الموصل إلى جنته الواسعة ورضوانه الدائم؛ ما دام للعلم طالباً، وللعمل به قائماً، ولوجه الله له باذلاً، ولِمَ لا يكون طريقاً إلى الجنة وقد أسهر الطالب في العلم ليله، وأنفق فيه ماله، وآثر به وقته، وحبس عليه نفسه، ليكون عالماً، فإن لم يكن عالماً فمتعلماً؟
إنه الخير العظيم الذي يمنّ الله به على من يختاره ويصطفيه من عباده، فيجعل له من ميراث النبوة نصيباً، حين يبذل نفسه ووقته وجهده وماله لينهل من معين الشريعة، ويتفقه في دينه ويتبصر، فيكون وعاء للعلم الذي يحيي الله به القلوب ويشبع به حاجتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» (رواه البخاري)، قال السندي: «والفقه في الدين هو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويظهر أثره على الجوارح، ويترتب عليه الإنذار».
كما يشير إليه قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، قال البغوي: «والفقه هو معرفة أحكام الدين، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة، والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، يجب عليه معرفة علمها، مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه».
لذا، فإن أول ما يجب علينا تعلّمه الإيمان والتوحيد؛ حتى تقوى صلتنا بالله، وتكثر طاعتنا له، ونعبده على علم واتباع وإخلاص ويقين، فالعلم إنما يكون قبل العمل، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) (محمد: 19)، وإن التعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا يملأ القلب سكينة وإيمانا وطمأنينة، مع الرغبة والرهبة والرجاء والخوف.
وقد عرّفنا سبحانه وتعالى على نفسه في كتابه الكريم، فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4}) (الإخلاص)، وقال لنبيه موسى عليه السلام: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14)، قال ابن عاشور: «وفي هذا إشارة إلى أن أول ما يتعارف عليه المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه، وعلَّم كليمه اسمه، وهو الله».
بشائر ربانية
كانت أول آيات أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}) (العلق)، وهي دعوة من الله لهذا الإنسان الذي جعله قادراً على تلقي العلم، ليتعرف أولاً على ربه وخالقه؛ فيزداد إيماناً ويقيناً، فمَن خلق وعلّم هو ربنا الله الذي يسّر أسباب العلم ووسائله وأدواته، ومن تعلَّم ولا يزال يتعلم هو الإنسان المكَرّم.
وحتى يسارع المسلم لطلب العلم، ويصبر المتعلم ويتصبر على مشقة طلبه، ويثبت على طريقه؛ توالت له البُشريات الواحدة تلو الأخرى، تشجعه وتحثه وتقويه حتى يكون له عزم ونية، فهو إما أن يكون عالماً أو متعلماً، وفي كلا الحالين عليه أن يجدَّ في التعلم ولا يفتر، ويسير فلا يتوقف، متمثلاً قوله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114)، حتى يصل إلى مرتبة العلماء الربانيين، أو المتعلمين العاملين.
من هذه البُشريات قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يطلبُ فيه علماً، سلك اللهُ به طريقاً من طرقِ الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضاً لطالبِ العِلمِ» (صحيح أبي داود)، وقال: «وإِنَّ طالبَ العلمِ يستغفِرُ له كلُّ شيءٍ، حتى الحيتان في البحرِ» (صحيح الجامع)، وقال: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع» (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).
وقد عرف الصحابة ذلك، فلم يضيعوا هذه الفرصة الثمينة من بين أيديهم، فجلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعلمون منه ويحفظون قوله وعمله، وينقلون ما تعلموا لغيرهم، كما أن النساء أيضاً كان لهن نصيب في ذلك، فعن أبي سعيد الخدري قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بحَديثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِن نَفْسِكَ يَوْماً نَأْتِيكَ فيه تُعَلِّمُنَا ممَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقالَ: «اجْتَمِعْنَ في يَومِ كَذَا وكَذَا في مَكَانِ كَذَا وكَذَا»، فَاجْتَمَعْنَ، فأتَاهُنَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَعَلَّمَهُنَّ ممَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ. (رواه البخاري).
اقرأ وتعلَّم واصبر
من طلب العلم مخلصا في طلبه؛ آنس الله به وحشته، وقطع به غربته، فسلِم قلبه ورقت نفسه، وسمت روحه، وأحب العلماء وطلبة العلم، ووجد في طلبه لذة، فلم يضيع وقته فيما لا يفيد، وقد لخص ذلك ابن القيم فقال عن العلم: «هو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف في الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكهف الذي لا ضيع على من أوى إلى حرزه، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، مدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم من الحاجة إلى الشراب والطعام» (مدارج السالكين).
إن طلب العلوم الدنيوية التي فيها صلاح العباد والبلاد هو مما دعا الله إليه، لكنها ليست فرض عين على كل مسلم، أما معرفة الحلال والحرام وما يصلح به دين المرء فهو فرض على كل مسلم، وإنه لمن المؤسف أن يتعلم المسلم كل ما يهمه في دنياه، ثم يتعلل بشغله ومشاغله عن طلب ما يلزمه من علوم الشريعة مما يحتاجه لآخرته، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: “إنَّ اللهَ تعالى يُبغِضُ كلَّ عالِمٍ بالدنْيا، جاهِلٍ بالآخِرَةِ” (صحيح الجامع).
كما أن من النساء من تتعلم ضروباً من فنون التجميل والموضة والأزياء، والطبخ والحِمية، التي قد تستهلك فيها كل وقتها؛ فلا تجد متسعاً لعلوم الشريعة، فقد تعرف كيف تتجمل، لكنها لا تعلم ما هي ضوابط تَجمُّلها، وتعرف مواصفات لباس الموضة، لكنها قد تجهل مواصفات لباسها الشرعي، وقد يستهلك الجميع أوقاتهم رجالاً ونساء في أمور الدنيا بالتنقل بين قنوات الشبكة العنكبوتية المتعددة دون أن يفسحوا مجالاً لتعلم أمور دينهم.
أما شبابنا –وهم أمل هذه الأمة- فقد زهد البعض منهم في التزود من العلم الشرعي مما هو فرض عين عليهم، فهجروا القرآن الكريم الذي فيه عزهم، وتخاصموا مع القراءة، وكسروا القلم! ولا تفتأ أصابعهم تتحرك يمنة ويسرة على شاشات المحمول والإنترنت، تتلقى أو تبث الغث والسمين دون علم، تموت الأنفاس وتضيع الأوقات وتتبعثر هنا وهناك مما لا يدع مجالاً لحديث نبوي يُحفظ، أو آية قرآنية تُفهم، أو حكم فقهي يُعرف! فقد تحفظ مواعيد المباريات دون مواعيد الصلوات! يهتم الشاب بمظهره قبل أن يهتم بقلبه وجوهره، وينساق وراء الشهوات المحرمة والتشبه المنهي عنه في لباسه وشعره وربما أخلاقه، ظناً أن فيها سعادته، وجهلاً بقبح فعلته، وما علم أن السعادة الحقيقية في طاعة الله، وأن العلم بما يريده الله هو طريق العمل والسبيل إلى الرضا والقبول والتوفيق في الحياة، لكن الأمل يبقى بالعود الحميد منهم إلى رحاب الطاعة والتحلي بالعلم.
هيا وسِر في درب العلم والعلماء، فإن كنت عالماً فعلِّم غيرك، وأبشر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ” (صحيح أبي داود).
وإلا فكن متعلماً، تتعلم ما هو فرض عين عليك، فإن ازددت فهو خير إلى خير، والله تعالى يقول: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، هيا.. وكن كما قال أبو الدرداء: «كن عالماً أو متعلماً أو محباً أو متبعاً، ولا تكن الخامس فتهلك».