بين الحين والآخر يصدر حكم قضائي بمنع النقاب في بعض بلاد المسلمين، ومثل هذا الحكم يخالف أصول الأحكام المقررة في الفقه الإسلامي، فارتداء المسلمة التي بلغت الحيض النقاب يدور بين القول بالاستحباب – وهو مذهب الجمهور- وبين القول بالوجوب، وهو الرأي المعتمد في مذهب الحنابلة، ولم يخل مذهب من المذاهب الأخرى إلا وفيه بعض الفقهاء الذين يقولون بوجوب النقاب..
وإذا كان الحكم يدور بين الوجوب والاستحباب؛ قدم فعله على ما قرره الفقهاء في قواعد الجمع والترجيح، وإن كان التقديم لا يعني ترجيح الرأي المرجوح في مقابل الرأي الراجح من جهة الاستدلال، ولكنه من باب العمل بقاعدة ( الخروج من الخلاف مستحب)، ويجمع معها قاعدة ( لا إنكار في مسائل الخلاف)، وقاعدة: ( لا ينكر المتفق عليه، وإنما ينكر المختلف فيه)، يعني لا يجوز لمسلم أن ينكر على مسلم أمراً مختلفا فيه، لأن كل رأي من الرأيين مبني على أدلة شرعية معتبرة، وإنما الإنكار إذا خالف المسلم أمراً قطعياً من أمور الدين، فهنا للمسلم أن ينكر على أخيه المسلم فعل المحظور وترك المأمور..
فمن العجيب أن ينكر النقاب في بلاد الإسلام، ويحرم حظر ارتدائه على المسلمة البالغة؛ لأنه من المتفق شرعاً أن النقاب مشروع في الإسلام، وهو محل اتفاق بين الفقهاء، يعني أنه ليس هناك خلاف في أنه مشروع، وإنما الاختلاف في درجة مشروعيته التي تدور بين الاستحباب والوجوب..
وحظر النقاب هو إحداث لرأي جديد خارج عما استقر عليه آراء علماء الأمة، وإحداث رأي ثالث في مسألة فيها رأيان لا يجوز شرعاً، لأن فقهاء الأمة كما يجمعون على رأي في المسألة، وهو المعبر عنه بـ (الإجماع)، فإنهم أيضاً ربما يجمعون على أن في المسألة رأيين أو ثلاثة أو أكثر، ويستقر الأمر عند ذلك.
والأصل فيما يتعلق بالأحكام الشرعية أنها ليست للمحكمة المدنية التي تستند إلى قانون وضعي، بل يجب على المحكمة أن ترفع الأمر إلى جهات الإفتاء؛ لأنها صاحبة اختصاص، وقد أمر الله تعالى الرجوع إلى أهل العلم والاجتهاد فيما يستشكل على الناس من قضايا، لأن هذا من بيان الله للناس، وذلك الذي سماه الشافعي بـ(البيان بالاجتهاد)، وقد قال الله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء/83].
وحظر النقاب مخالفة لما استقر عليه الاجتهاد الفقهي من أحكام شرعية مستقرة، وقد استقر عند فقهاء الأمة مشروعية النقاب على وجه العموم، سواء كانت المشروعية استحباباً أو وجوباً، وإذا كان النقاب واجباً؛ عظمت المخالفة له، وإن كان مستحباً؛ لم يكن للدولة حق أيضاً في منع المستحب، فكل ما كان مشروعاً ( من الوجوب والاستحباب)، أو كان محظوراً ( من الحرمة والكراهة) لا يجوز للدولة أن تتدخل فيه، إلا إذا كان أمراً خلافياً، فللدولة أن تستعين بأهل الاجتهاد، وأن تختار أحد الرأيين، باعتباره راجحاً، وكذلك الشأن فيما يتعلق بالأمور المباحة التي يتساوى فيها طرفا الفعل والترك.
كما أن حظر النقاب يدخل تحت التعسف في استعمال الحق، ومنع الحريات العامة التي يكفلها الفقه والقانون، وفي الوقت الذي يكفل القانون للمرأة المسلمة أن تقع في الحرام، وأن تخلع حجابها، وأن تسفر عن شعرها وبعض جسدها، ولا يمنعها أحد، ولا تقوم الدولة بإجراء قانوني رغم مخالفتها لأحكام الشريعة التي لم تجعل للشخص حرية في ارتكاب المحرمات، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) [الأحزاب/36]، بل إن وظيفة الحاكم هو حراسة الدين، وتسهيل تطبيقه للناس، والسعي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق الحسبة التي هي جوهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الدولة، بل المجتمع المسلم مسئول عن ذلك، كما قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة/71]، فالعجب أن يقوم بعض المسئولين بتبني تلك الأفكار الخارجة عن طبيعة المجتمعات المسلمة، وتلك صورة لم تكن معهودة في أي عصر من عصور الإسلام، وإنما هو في عصر العلمانية ومخاصمة الدين، وهو أمر مشين أن يصبح الحق باطلاً والباطل حقاً، فكل فتاة تريد أن ترتدي النقاب يجب على الدولة أن توفر لها الحماية والرعاية، فإن فعلها مما هو محمود عند الله، ويجب أن يكون محموداً عند الناس وعند الدولة أيضاً..
وما يحصل اليوم من حظر النقاب ومحاربة الصالحات لهو من البلاء الذي ابتلينا به في زماننا، فأمة الإسلام يحظر فيها المشروع ويسمح فيها الممنوع، ويقدم فيها المخالف، ويؤخر فيها المتبع، وتلك لعمري الطامة العجلى، وتلك ظواهر سلبية، غريبة عن المجتمعات المسلمة.
إن حظر النقاب في مؤسسات الدولة منقصِِة عظيمة، وبلاء كبير، ينبغي على ولاة الأمور القيام بواجبهم تجاه هذا، من التصدي له، وعدم السماح به؛ حفظا للمجتمعات المسلمة من الفوضى والاضطراب، وتحقيقا للأمن السلمي والمجتمعي، فما أحوج المجتمع المسلم إلى الفضيلة وترك الرذيلة، وكل من فعل محمودا في مجتمع المسلمين شكر، وكل من فعل مذموما فله النصح الجميل، حتى يهدى السبيل، وتلك سبيل المؤمنين، وطريق الفالحين، فمن اتبعها؛ هدي، ومن حاد عنها، فقد ضل سواء السبيل.