“التخفي وراء الأبواب المغلقة لن يجلب النور للعينين”.. تلك حكمة قرأها لأحد حكماء ما وراء النهر الذي يفيض عسلا والذي ينبع من تلك الجبال البعيدة.
من يومها بدأ يشتري أغراضه من هؤلاء المارين على الأبواب، أجسادهم النحيفة، عيونهم التي تشبه حبات البازلاء، حتى نساؤهم وشعرهن المنسدل خيوطا سوداء؛ لكنها فيما بعد وحين أطال النظر إليهن وجدها شعورا من حبال مجدولة كخيوط صوف غنم بلاده الرحمانية.
صار مشهورا بين أقرانه بالرجل الذي يعجب بالقوم الذين يرون بعيون تشبه حبة البازلاء.
نفور غريب أبداه أقرانه ناحيته، فكلما غاب كلب أو اختفى قط يلوكون سيرته، هو من أعلمهم بما يفعله هؤلاء فيما يروي عن طعامهم!
فالعداء متأصل بين المتعاصرين، كيف له أن يعرف حكايات لم تمر عليهم من قبل؟
سمع به القابع في الحجرة المظلمة فاستدعاه؛ المجاعة على الأبواب، يمتلك حلا عبقريا!
عليه أن يثني على ذوي العيون التي تشبه البازلاء، يكتب قصصا، يحكي أخبارا عن تقدمهم، بالتأكيد يضع بعضا من عاداتهم في ثنايا سرده.
“حتى الأطفال مرغمون على واحد فقط”.. هكذا قال الرفيق الذي يوزع عليهم الرغيف مع مشرق الشمس، ساعتها يدبجون قصائد مديح، أما في الليل فينامون، النساء تحبلن بأمر الرفيق، الحياة هناك تسير ببطاقة ممغنطة، ملامح وجوههم بل وجيناتهم تكاد تكون متطابقة، حتى يبث الرعب فيمن يخالفهم، أوصاه القابع في الحجرة المظلمة أسفل البناية العتيقة: أن يشيع أنهم يأجوج ومأجوج فعما قريب من لا يفعل ما يخيله لهم؛ سيلتهمون بقاياه!
صارت له مهنة، ترك مسح الأحذية، لعابه يسيل عندما يقص نتفا عنهم، الآن امتلك موجات الأثير، طالت لحيته صبغها بحبر مطبعة في حي “بين السرايات” قرب أسوار الجامعة الأم، رسم صورة لفتية يلعبون الكرة، انتحب شيخا في كربلائية تتجدد، تطوح يمينا رقص ويسارا، صنع دمية، وحين خيل إليهم أنها تسعى، رفعوه تاجا؛ فالعامة يمتلكون ذاكرة السمك، تراه سحرهم، بل استرهبهم؟ الوشاية بلغت منتهاها، الحيلة أعيتهم، كلما زاد في لهوه استناموا لوقع حكاياته.
الرجل القابع في الحجرة المظلمة أسفل البناية العتيقة مل منه، لقد سلب عقل زوجته، أرغم ولده أن يصدق ترهاته، لقد صار مثل ببغاء النازي.
ولأن الخطر يكمن فيه داء امتد خطره، فكر كيف يمحو أثره، واجهت الرجل القابع محنة؛ إن كشف شره استفاق النائمون، وإن قتله جعلوه مفكرا!
سلطها عليه؛ فاتنة من ذوات العيون التي تشبه البازلاء، أحبها عمره الذي تسرب من بين يديه.
تفلح المرأة حيث توجد الرغبة التي انفلت عقالها؛ نسي لأجلها ما قدمت يداه، عكف عليها سامريا، تمنعت حيث أقعى بين يديها، صدق أن العين التي تشبه حبة البازلاء جميلة، هيهات تفلح الوشاية!
المذياع يهدر ببيان يعلن فيه القابع في الغرفة الملونة، أن المتلبث عمره وراء المرأة ذات العين التي يوما كانت جميلة؛ اجتمعوا من كل حدب يتناسلون، سملوا له عينا، وضعوا مكانها حبة بازلاء خضراء، يا لهم من رحماء، أدار وجهه قبل مغرب الشمس، أظلمت الدنيا، الصغار يقذفونه بالحجر، القابع في الحجرة المضيئة أوصاهم أن يبنوا له مقاما، جمعوا الذهب والفضة، ثم جاء الطوفان، كانت صيحة، ولما أركبوه الأتان مستدبرا رأسها، قص حكايته للصغار في حكاية قبل النوم في متوالية لا تنتهي.