هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدون ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا يتغير الهياكل أو الشكل –وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية التي هي عبارة عن استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة وبعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرن، واهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه؛ لذا فهذه الرؤية أو المُمَهِّدَات المعرفية، تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
إن أعظم ما تحتاجه حركة الإصلاح الإسلامي المعاصرة أن يكون لها “مراكز تفكير وسيطة” تربط ما قدمته حركة الإصلاح المعرفي في الأمة على المستوى التنظيري –والمتقدم جدًا- وواقع الحركة الإسلامية –والمتأخر جدًا عن ملاحقة المستوى التنظيري- وهو ما أوجد بونًا وفجوة شاسعة بين التنظير والتطبيق في واقع حركة الإصلاح الإسلامي في الأمة وأردى الحركة إلى ما آلت عليه الآن، هذه المراكز الوسيطة مهمتها عملية “البناء الفكري” تلك الفريضة التي غابت على المستوى التطبيقي وفي البرنامج التربوي لواقع الحركة، بحيث يَمُد أفرادها بالرؤية الكلية المعمقة حول قضايا الأزمة الحضارية وإدراك الواقع إدراكًا عقليًا سليمًا مستبصرًا بميزة العلم والبحث المعمق، وإدراك التراكم المعرفي الذي أحدثته الحركة على المستوى التنظيري، لتسير الحركة عن علم ووعي كاملين، وهو ما لم يتحقق للأسف؛ حيث سارت الحركة بجناح واحد “هو الخبرة والممارسة والتجربة والخطأ في مواجهة الأزمة”، فسارت كالحجلاء أو العرجاء بقدم واحدة، وقد رأينا أن التسارع الأولى بعد ثورات “الربيع العربي”، هو تسارع لإنشاء مثل هذه المراكز الفكرية الوسيطة كان هو الأولى، ولكن للأسف كان التسارع نحو مراكز الأحزاب السياسية.
إن مهمة هذه المراكز الوسيطة هي التعامل المباشر والعيني مع القاعدة التي تمثل قلب العقل الجمعي للحركة الإسلامية والمجتمع، كما أنها تمثل جسرًا ممهدًا، يربط بين حركة الإصلاح المعرفي وبين الحركة الإسلامية العاملة في الواقع الإسلامي في محاولة لرأب هذا الصدع الكبير بينهما.
مراكز البحوث والتفكير العليا.. إنقاذ الحركة وإعادة البناء
مع الفجوة الحادثة بين عالم التنظير وعالم الحركة في الأمة، افتقدت الحركة الإسلامية في عملها الميداني جانب النتائج العلمية والبحثية سواء منها ما تم داخل الأمة أو خارجها، واعتمدت الحركة على الخبرات وليس “أَهْلَ الذِّكْرِ”، وعلى الممارسة ومحاولات التجربة والخطأ وليس “فَأَتْبَعَ سَبَبًا”، ومن ثم غابت مراكز التفكير والبحوث العلمية وبيوت الخبرة التي يشغلها كوادر مؤهلة ومستقلة عن الجانب التنظيمي وآفاته، ومن هنا فإن الحركة في واقعها الآن ومستقبلها في حاجة ماسة إلى هذه المراكز العلمية والفكرية لتقوم بدور الموجه للحركة وواضع المعاير والخطط والبرامج، ومن ثم فهي في حاجة إلى مراكز تشمل كل جوانب حركتها: مراكز بحثية اجتماعية، مراكز فكرية سياسية، مراكز فكرية تربوية، وهكذا.. وعلى الحركة أن تفسح المجال لنتائج عمل هذه المراكز أن يكون هو الموجه للبناء والتقويم ووضع الإستراتيجيات وإدارة الأزمات، وغيرها من الأمور الضرورية، ولا مشاحة أن نستعين بخبرات دولية –بالإضافة إلى مراكز بحوثنا العاملة فعلًا- كما استعان صلى الله عليه وآله سلم بعبدالله بن أريقط في أهم حدث إسلامي بعد نزول الوحي وهو الهجرة، لا بد أن تتحقق القناعة لدى القائمين على أمر الحركة في الواقع الآن والمستقبل بدور هذه المراكز في الإدارة العلمية والمعرفية والإستراتيجية للحركة فهذا أحد جوانب الإنقاذ وإعادة البناء.
بناء عقل نقدي مناضل
بناء عقل نقدي مناضل يتطلب ثورة فكرية في البرنامج التربوي للحركة الإسلامية وفلسفة هذا البرنامج وتصوراته ومفاهيمه، وتحديدًا فإن بناء برنامج تربوي لبناء العقل النقدي الإسلامي ينبغي أن يقوم على منظومة قيم توحيدية أساسها: قيمة الحرية، وقيمة المسؤولية، وقيمة المراجعة والمحاسبة، وهذه القيم ترتبط ببعضها في شكل دائري، فلابد للمسلم أن يتعلم الحرية ويدرك أنها كانت سبب خلقه وتكليفه بالأمانة التي ألقيت على كاهله وتميز بهذه الحرية على الملائكة وعلى كل المخلوقات الكونية، فهو الوحيد الكائن الحر.
ويتبع هذه الحرية قيمة المسؤولية، مسؤولية المسلم عن هداية الكون وليس حكمه أو الاستحواذ على ثرواته ولكن مهمته التبليغ؛ “جئنا لنخرج العباد..” لا لنهيمن عليهم، بل يُهمين عليهم هدى الله، الذي يجب أن يصلوا إليه بقلوبهم وعقولهم، والمسلم واجبه الإرشاد والتوجيه، والأمة المسلمة هي أمة مرشدة لغيرها من الأمم، فالمسؤولية لا يعقبها مغنم، بل ربما يضحي بكل ما يملك من أجل إيصالها (نموذجية أبوبكر في الهجرة.. وأسماء وعليِّ رضي الله عنهم جميعًا وغيرهم من نماذج القدوات في الأمة).
والقيمة الثالثة هي المراجعة والمحاسبة، وهي قيمة أصيلة في النهج التوحيدي (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء: 13)، وهو ما تقعد في السيرة النبوية والراشدية، فالأمة راجعت نبيها مراجعات عديدة، والصحابة راجعوا أنفسهم من بعده ليصلوا إلى صواب الأمر، فالمسلم متواضع مع ربه ومع نفسه ومع غيره ويرى أن ما وصل إليه يحتاج دائمًا إلى مراجعة وتصويب، فهذه سُنة الحياة والأحياء، أما الثبات والجمود والتقليد الأعمى فهي سُنة الموتى والموات.