«ليس معنى أن نتخذ موقفاً من التغريب أننا ندعو للقطيعة مع الحضارات الأخرى، فليس ذلك مقصوداً أبداً، ولكننا في الوقت نفسه نرفض الذوبان أو الاستسلام أو التبعية..»، بهذه العبارة الدالة الواضحة بدأ د. عبدالحميد مدكور، الأمين العام لمجمع الخالدين بالقاهرة، حواره لـ»المجتمع حول قضية «التغريب» وما يكتنفها من لغط يروج له دعاته بين فينة وأخرى.
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة أكد أن العلاقة بين الحضارات وما يقع بينها من تأثير وتأثر يمكن تشبيهها بعملية نقل الدم من إنسان إلى آخر، وهذا النقل يقتضي تماثلاً وتجانساً من نوع الفصيلة التي سيتم نقلها، فإذا لم يتحقق هذا التماثل أو التجانس، فإنه سيتسبب بإضرار الشخص الذي سينقل إليه الدم، وقد يؤدي إلى وفاته، وهكذا الشأن في علاقة بعض الحضارات ببعض.
بداية، لو أردنا وضع تعريف محدد لمفهوم التغريب لننطلق منه في الحكم على مفرداته المختلفة، فكيف يمكننا أن نعرفه؟
– كلمة التغريب -في أصلها اللغوي- تدل على معاني النأي والبعد والارتحال بعيداً عن الوطن والانتقال من جهة الشرق إلى جهة الغرب، حيث يقال غرب واغترب، وتغرب عن الوطن بمعنى نزح عنه، ويقال: أغرب إذا أتى الغرب، وقد تدل على أنه جاء بالشيء الغريب غير المعهود في الآراء والأفكار، ويقال كذلك: أغرب في الأرض بمعنى أمعن فيها وسافر سفراً بعيداً.
وما يزال للكلمة صلة وثيقة بهذه المعاني في الاستعمال اللغوي المعاصر، لكنها تطورت في دلالتها ومضمونها، فأصبحت تستعمل على الألسنة، وفي الكتابات والآراء بمعنى جديد يتصل بظواهر ثقافية واجتماعية وسياسية في علاقة العرب والمسلمين وغيرهم من الحضارات والشعوب الشرقية بالحضارة الغربية التي تسعى بكل الوسائل لإضفاء الطابع والنموذج الغربي على الحياة في سائر الحضارات الأخرى، ومنها الحضارة العربية والإسلامية.
هل ترون أن هذا الموقف ثابت من الحضارة الغربية، بمعنى أن لديها رغبة لذلك، أم هو محض افتتان من بعض من يفتتن بها من هذه الشعوب؟ ولماذا؟
– بالطبع هو موقف ثابت تتخذه الحضارة الغربية تجاه العالم، رغبة منها في تأكيد تفوقها العلمي والصناعي، وتوسيع نطاق هذا التفوق ليشمل الظواهر الإنسانية والاجتماعية والفكرية.
وبالمناسبة ودليلاً على ما أقوله، فإنها تسلك لتحقيق ذلك كل سبيل، بداية من المعونات الاقتصادية والضغوط السياسية إلى شن الحروب إذا لزم الأمر، ويرتبط ذلك في العالم العربي والإسلامي بالحقبة الاستعمارية التي قامت بها أوروبا على هذين العالمين، التي كان من أهم وقائعها الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801م) وما تلاها من المحاولات الغربية لاحتلال العالم الإسلامي.
وهنا ربما يجدر بنا أن نؤكد أنه مما يستدعي الانتباه ويستوقف النظر ما عرضه «نابليون» على المجمع العلمي الذي أنشأه بمصر في أول جلسة له، حيث طالب بدراسة وفهم الموقف عموماً في مصر من ناحية القانون المدني والجنائي وتدريس القانون، وهل يمكن إدخال تحسينات يقبلها الأهالي!
وعندما دعا الديوان العام الذي شارك فيه بعض علماء الأزهر إلى الاجتماع عام 1798م، كان من أهم أهدافه أن يعمل الديوان على إعادة النظر في الإجراءات الجنائية والمدنية وقوانين الملكية والمواريث والضرائب، وكان من أهم الأسئلة التي عرضها على الديوان: ما القوانين التي يجب سنّها وتشريعها لضمان حق الميراث.
ولم تكن هذه الأسئلة تمثل مشكلة للمصريين الذين كانوا يتبعون الشريعة الإسلامية، وما جاء بها من قواعد للميراث والملكية، ولكنها كانت تمثل رغبة «نابليون» في إزاحة الشريعة عن مكانتها التي كان المصريون يحتكمون إليها، دون شكوى أو تبرم، كما أن ذلك كان يعني محاولة إضفاء الطابع الغربي على النظم والقوانين السائدة في مصر، بما يترتب على ذلك من تغير في أنماط الحياة الاجتماعية التي تترتب على تطبيق هذه القوانين.
وقد خرج «نابليون» وجيشه من مصر دون أن يتمكن من تحقيق غايته، ولكن الفكرة ظلت قائمة منتظرة الفرصة لتحقيقها في مصر حتى جاء اللورد «كرومر»، فجعل القانون الأجنبي هو القانون المطبق في المحاكم المصرية كلها ما عدا قضايا الأحوال الشخصية، وأصبح التغريب هو السائد في نطاق القانون الذي يمثل ركناً مهماً من أركان الحياة الاجتماعية.
لو ابتعدنا قليلاً عن العمق التاريخي لبدايات محاولات التغريب، وأردنا أن تضع لنا حدثاً تعتبره فارقاً في وسائل هذا التغريب وطريقة إدارته، فما هذا الحدث؟ وكيف تراه؟
– أعتقد هو ما حدث في أواخر القرن العشرين، وتحديداً في العام 1994م، حيث استعملوا وسيلة أخرى من وسائل التدخل في شؤون المجتمعات الإنسانية، تحقيقاً لما يريدونه من تغريب يصبغ المجتمعات غير الغربية بالطابع الغربي عن طريق المعاهدات الدولية التي تعمل على تغيير ثوابت المجتمعات.
وأقصد هنا تحديداً مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية الذي عقد في عام 1994م بإشراف الأمم المتحدة، حيث تدل وثائق هذا المؤتمر صراحة على أنها تدعو سائر المجتمعات إلى تطبيق النمط الغربي في النظر إلى الحياة الأسرية والحرية الجنسية وحرية الشذوذ! وتتحدث عن علاقات جنسية قبل الزواج، وبدونه، وتسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الإمتاع للفرد على حساب التعاليم الدينية، والقيم الأخلاقية.
وكان من فضل الله أن الأزهر الشريف والكنيسة المصرية وقفا بقوة لهذه الوثيقة، وقابلاها بالرفض الصريح، ولولا ذلك لسقط ركن آخر من أركان الأسرة والحياة الاجتماعية، ولدخل المجتمع في وهدة التحلل والفساد الخلقي اللذين يقضيان على تماسك المجتمع وقيمه الأخلاقية.
على ذكر الوسائل، هل ترون الاستشراق إحدى تلك الوسائل الناعمة لتحقيق هذا التغريب؟
– بكل تأكيد، وذاك تحديداً يتمثل فيما كان يقوم به فريق من الباحثين في شؤون الشرق من المفكرين الغربيين الذين يندرجون تحت راية الاستشراق الإنجليزي والفرنسي ثم الأمريكي، ويشير إلى هذا الجهد المستشرق الأمريكي من أصول عربية إدوارد سعيد، الذي ذكر أن فريقاً من المستشرقين كانوا ينظرون إلى الاستشراق بوصفه أسلوباً غربياً للسيطرة على الشرق والسيادة عليه، وإعادة بنائه على النحو الذي يتفق مع العقلية الغربية، والإسهام في تكوين فكرة الشرق عن نفسه بما يتفق مع الفكرة الغربية عنه، وإن كانت مختلفة مع واقع الشرق نفسه.
البعض يقول: إن الاستشراق في جزء كبير منه بهذا المعنى ما هو إلا تمهيد لتقبل فكرة الاستعمار ذاتها، هل توافقون على ذلك؟
– نعم، وهذا ما يقوله إدوارد سعيد الذي يربط بين الاستشراق بهذا المعنى واتجاه الغرب إلى استعمار الشرق ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث يرى هؤلاء أن تغيير العقليات والأفكار، وزلزلة الثوابت الدينية والاجتماعية، والتقبل لصور الحياة الواردة يجعل من السهل على هؤلاء تقبل الاستعمار بعد إخضاعهم لغسيل المخ وإعادة حشوه بالوافد المنتمي إلى الحضارة الغربية ومنظومة أفكارها وطريقتها في العيش وترتيبها للأولويات والقيم السلوكية.
لكن، ألا ترون أن الأزمة ليست في عمل هؤلاء بقدر ما هي في أن هناك من بني جلدتنا ممن يوصفون بالنخبة الفكرية والثقافية وهم أبواق هؤلاء يرون ذلك ويدعون إليه؟ هل تتفقون معي؟
– بكل تأكيد هذه هي الأزمة الكبرى، التي تزيد الطين بلَّة، عندما تجد مفكرين من أبناء المجتمعات المستهدفة بهذا التغريب ينادون بمثل ما ينادي به أبناء الحضارة الغربية، حيث يرى بعض هؤلاء -كما يقول طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» الذي ظهر في أربعينيات القرن الماضي- أن الطريق إلى النهضة هو الأخذ بأسباب الحياة الحديثة التي يأخذ بها الأوروبيون في غير تردد ولا اضطراب، وأنه ليس في الأرض قوة تستطيع أن ترد العرب وغيرهم عن أن يستمتعوا بالحياة على النحو الذي يستمتع بها الأوروبيون، وأن السبيل إلى ذلك ليس بالكلام المرسل، ولا بالمظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هي واضحة بيّنه مستقيمة ليس بها اعوجاج أو التواء، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع.
ولا يختلف عن ذلك كثيراً ما يقوله سلامه موسي: «كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا، وأن نلتحق بأوروبا، فكلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها».
تخيل هذه مشاعره تجاه الشرق الذي ظهر فيه الإسلام، وفيه قبلته، وهو في نظره تزداد كراهيته له كلما زادت معرفته بتاريخه وثقافته! أما أوروبا فهي رمز للتمدن والحضارة والعلم والحرية عنده!
ما سر هذا الافتتان الكبير بالنموذج الغربي من هذه النخبة؟
– الدعوة إلى التغريب كانت تمشي في ركاب التقدم التقني الذي كانت الحضارة الغربية الأوروبية سابقة فيه لغيرها من الحضارات، وكان التفوق العسكري للغرب واضحاً ابتداء من القرن السابع عشر، وذاك هو السر؛ الربط بين هذا ونموذج الحياة، وكأن هذا نتيجة لذاك!
وكما يقول المؤرخ الكبير «توينبي»: إن فن الحرب ما هو إلا أحد وجوه طريقة المعيشة الغربية، وأي مجتمع غريب يرغب في تعلم هذا الفن دون أن يحاول تبني طريقة العيش نفسها يكتب له الفشل حتماً، وهو يفسر ذلك بأن جميع المقومات في حضارة ما من دين وتكنولوجيا لها جذور داخلية، وإذا تخلى أحدهم عن طريقته التقليدية ليتبنى طريقة أجنبية، فهذا التغيير الذي يبدو عليه أنه سطحي لا يبقى كذلك، بل يتسرب إلى الأعماق، إلى درجة تصبح معها الحضارة التقليدية في الصف الثاني، بينما تشق الحضارة الأجنبية لنفسها شيئاً فشيئاً طريقاً بواسطة الشق الذي خلفه على السطح من الخارج الطريق الأجنبي؛ لذلك كان البدء بالتكنولوجيا مقدمة سيتبعها بالضرورة باقي العناصر.
هل ترون انتشار المدارس الأجنبية في جنبات وطننا العربي والإسلامي إحدى وسائل التغريب؟
– نعم، خاصة انتشار المدارس التي تجعل اللغات التي تعلّم بها معياراً للفكر والفن والثقافة والتاريخ، ويقع ذلك فيها دون إشراف جاد على مناهجها.
ولذلك لا يجد المنتسبون إليها والمتعلمون فيها ما يؤكد هويتهم، وما يربطهم بتاريخهم وقضايا شعوبهم، بل قد يحظر في بعضها النطق بالعربية التي هي اللغة الأصلية لطلابها، وكل هذه قنوات يتسرب منها التغريب إلى المجتمع، ويحدث أثره في تغيير الأفكار والأذواق ونمط العيش وطريقة الحياة، بل قد يؤدي إلى الانفصال النفسي عن المجتمع والتفكير في الهجرة إلى هذه البلاد التي قد تكون معارفهم عنها أكثر من معارفهم عن مجتمعاتهم.
لكن بعض هؤلاء لا يرون في ذلك تغريباً، بل حداثة وتقدماً ومدنية وتحضراً!
– ولن تغني عنهم ألفاظهم التي يروجون بها للتغريب شيئاً، فالعبرة بالآثار التي تترتب عليه، فلْيُسمّوه مدنية أو تحضراً أو حداثة أو تقدماً أو تنويراً، لأن هذه الأسماء مرتبطة –في مضمونها- بالمجتمعات التي نشأت فيها، ولكل حضارة مصطلحاتها، ومشكلاتها، وتصوراتها وقيمها ومفاهيمها وغاياتها، وعلى كل مجتمع أن يعالج مشكلاته، ويحدد غاياته بما يتفق مع ثوابته، وبما يتلاءم مع قيمه، وقد قيل -قديماً- فيما يتعلق بنسبية الأخلاق: إن شيئاً ما قد يكون فضيلة على أحد جانبي النهر، على حين أنه قد يكون رذيلة على الجانب الآخر.
بل إن المجتمع الواحد قد تتغير فيه منظومة القيم، ومناهج التفكير من عصر إلى عصر، وهذا واقع يثبته النظر في أحوال الأمم والشعوب، وقد حملت الحضارة الأوروبية العلمانية التي تتخذ موقفاً سلبياً من الدين، لكن شعوباً أخرى وقفت في وجه هذا الموقف وقاومته متمسكة بقيمها وأصالتها، ثم حملت الحضارة الغربية إلى العالم مصطلح العولمة، ولكن شعوباً كثيرة تصدت لهذه العولمة وقاومتها كذلك، وسعت إلى الحفاظ على مصالحها، ولم تقبل الذوبان في هذه العولمة التي تنال من هويتها، وتقطعها عن تاريخها، وتنال من خصوصيتها الحضارية، بل إن بعض الدول التي رفعت شعار العولمة قد تراجعت عنه من الناحية العملية حتى ولو لم تعلن ذلك على المستوى النظري والأيديولوجي.
لكن من المهم التأكيد على أن اتخاذ مثل هذه المواقف لا يكون عن طريق الشعارات والادعاءات التي لا تغني فتيلاً عن أصحابها الذين سيجرفهم الطوفان لو لم يأخذوا بأسباب القوة التي تمكنهم من المقاومة، وهي القوة الشاملة التي لا تعنى بجانب واحد من جوانب الحضارة، بل عليها -إذا أرادت المحافظة على مكانتها– أن تعنى بكل الجوانب؛ اقتصادية وعلمية وتقنية وسياسية وعسكرية، ويتحول كل هذا إلى واقع يراه أصحابه ويراه الآخرون أيضاً.
لكن أليس هذا يعني تقوقعاً وقطيعة مع الآخر، وسنن الله في الكون تأبى ذلك، فالحضارات تتلاقح وتقوم إحداها على ما أخذته من الأخرى، فكيف تريدون لنا أن نقطع صلتنا بتلك الحضارات؟
– لا أبداً، لم ندعُ إلى ذلك، ولن ندعو إليه، فليس معنى أن نتخذ موقفاً من التغريب أننا ندعو للقطيعة مع الحضارات الأخرى، فليس ذلك مقصوداً أبداً، ثم إنه ليس ممكناً من جهة أخرى بسبب هذا التواصل الذي لم تعرف البشرية له نظيراً من قبل، ولكن ذلك لا يعني الذوبان أو الاستسلام أو التبعية.
ينبغي أن يكون واضحاً أن العلاقة بين الحضارات وما يقع بينها من تأثير وتأثر يمكن تشبيهها بعملية نقل الدم من إنسان إلى آخر، وهذا النقل يقتضي تماثلاً وتجانساً من نوع الفصيلة التي سيتم نقلها، فإذا لم يتحقق هذا التماثل أو التجانس، فإنه سيتسبب بإضرار الشخص الذي سينقل إليه الدم، وقد يؤدي إلى وفاته، وهكذا الشأن في علاقة بعض الحضارات ببعض.
وليس لدينا في حضاراتنا رفض –من حيث المبدأ– للتفاعل بين الحضارات، فالله تعالى يقول: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (الزمر)، وفي الحديث الشريف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها» (رواه ابن ماجة، والترمذي)، وليس يعني ذلك استيراد الحلول الحضارية أو عن طريق التبعية لحضارات أخرى، وليس هناك عائق يمنع الإفادة من تجارب الأمم الأخرى التي قد تتضمن كنوزاً من الخبرة الإنسانية في مجالات عدة، ومن ثم تكون جديرة بالرجوع إليها والإفادة منها، بشرط التجانس كما قلنا وعدم التعارض مع الثوابت التي لا يصح التفريط فيها.
الثوابت، هذه كلمة ربما كثر حولها الجدل، فهل يمكن أن تحدد لنا ما تراه أهم هذه الثوابت في موضوع التغريب على وجه الخصوص؟
– أعتقد أن اللغة العربية هي من أهم هذه الثوابت التي يجب الحفاظ عليها، بالنسبة للمجتمع العربي خاصة وللمجتمعات الإسلامية عامة، من حيث هي وعاء العلم، وخزانة الفكر ومستودع التاريخ، وأقوى عناصر توحيد الأمة، وتوحيد هويتها وتحديد مشاعر أهلها وإشعارهم بقوة الرابطة التي تجمع بينهم.
ثم هي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وبها دونت الكتب ووضعت المؤلفات في سائر العلوم العربية والإسلامية، وقد اتسعت للمعارف الإنسانية التي أبدعتها الحضارات السابقة على الإسلام، وظهر ذلك في حركة الترجمة الكبرى التي وقعت منذ وقت مبكر من تاريخ العالم الإسلامي، ثم ازدهرت في عصر الدولة العباسية، وقد حوت بين جنباتها معارف الفرس واليونان والهند والسريان ولغات أخرى، وهي من أطول اللغات الحية عمراً، وقد تعلمها وبرع فيها أبناء الشعوب التي دخلت الإسلام؛ فاتخذوها لساناً لهم، وألفوا فيها كتبهم، وتغنوا بها في أشعارهم، وكتبوا بها كتبهم العلمية في الفلك والرياضيات والطبيعيات والطب والصيدلة والفلسفة، فضلاً عن العلوم العربية والإسلامية.
لكنها تلقى عنتاً كثيراً متعدد الجوانب، وهي توصف عند بعض خصومها بأنها لغة بدوية عاجزة عن مواكبة الحضارة الحديثة، بل توصف أحياناً بأنها لغة ميتة، وقد كانت كذلك حتى في زمن ظهور القرآن الكريم، وهذا ما أورده سلامة موسى بالمناسبة في «اليوم والغد».
بعيداً عما روج له دعاة التغريب، كيف تم الاعتداء على اللغة العربية من وجهة نظرك؟
– مثلاً، تحول تدريس الطب في قصر العيني عندنا في مصر من اللغة العربية إلى الإنجليزية بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م بسنة واحدة، تخيل.. سنة واحدة! وبدؤوا في محاولة طمس الهوية، وبدأت الدعوة إلى استعمال العامية بدلاً منها، وكان من الدعاة إليها «ولكوكس» المهندس الزراعي الإنجليزي، ثم تلقفها غيره من المصريين، بل ودعا بعضهم إلى استعمال اللغة اللاتينية، ولم تعد العربية لغة العلم في الكليات العملية كالطب والهندسة والصيدلة والعلوم وغيرها.
أيضاً، نشأت المدارس الأجنبية التي تدرس كل موادها بلغة غير اللغة العربية كالإنجليزية والفرنسية، وخُصص لها في برنامج الدراسة وقت لا يكفي لدراستها، وغاب استعمالها في بعض المؤسسات والشركات واللافتات على الرغم من بعض القوانين التي تمنع ذلك.
كذلك لم يعد لها الغلبة في الإعلام ولا في برامجه التي يدار فيها الحوار باللهجة العامية التي قد تخرج أحياناً ببعض الكلمات الأجنبية، ثم ظهرت الوسائل المسماة بوسائل التواصل الاجتماعي فاستعملت لغة هجيناً من الكلمات العامية والأجنبية، وحلت الأرقام فيها مقام بعض الحروف، وأصبحت المسافة بينها وبين العربية شاسعة، وتضافرت هذه العوامل كلها على اللغة العربية وأصبحت معضلة كبرى.
إذن، ما الحل؟ وكيف يمكننا التعامل مع تلك المعضلة؟
– الأمر يحتاج إلى تدخل الدول لانتشال اللغة من الوهدة الثقافية التي تعيشها، وذلك بإصدار القوانين لحمايتها والتمكين لها، والعمل على أن تكون لغة علم كما كانت قروناً طويلة.
ونحن نقول ذلك توافقاً مع القول المأثور: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، فالدول هي التي تصدر القوانين، وهي التي تضع مناهج التعليم، وهي التي تستطيع محاسبة من لا يستجيب للقوانين أو النظم التعليمية.
لكن، دعني أؤكد أن كثيرين يعوّلون على مؤسسات المجتمع أكثر مما يعولون على الدول والحكومات لأسباب كثيرة.
– هذا صحيح، فالأمر لا يقتصر على الحكومات وحدها، بل يجب على المؤسسات التعليمية كالجامعات ومراكز البحث العلمي أن تقوم بواجبها نحو اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية في البلاد العربية.
ومن العجب أن أكثر كلياتها لا تتضمن موادَّ لدراسة اللغة العربية، والطلبة الذين يدخلونها تنقطع صلتهم بهذه اللغة بعد الثانوية العامة، فليس لها موضع في مناهجها ولو بمواد اختيارية، وأنَّى لهؤلاء أن يعرفوا هذه اللغة أو يستعملوها في حياتهم أو أبحاثهم العلمية فيما بعد، وقد ظهرت دعوات لتضمين اللغة العربية ضمن مناهج الكليات الجامعية منذ عام 1979م، ولكن هذا لا يطبق إلا في القليل من البلاد العربية.
ويبقى العبء الأكبر طبعاً على مجامع اللغة العربية، ومنها مجمع اللغة العربية في القاهرة.
على ذكر مجمع الخالدين بالقاهرة، ما الذي فعله المجمع في مواجهة ذلك؟ وهل أنتم راضون عن هذا الجهد؟
– أصدر المجمع عدداً من المعاجم المتخصصة تعد بالعشرات، ثم أصدر عدداً من المعاجم اللغوية كان من أهمها «المعجم الوسيط» الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية منذ بضع سنوات.
وهو يعمل الآن بحول الله وطوله لإصدار المعجم الكبير الذي سيكون –عند إتمامه– أوسع معجم للغة العربية، وقد صدر منه حتى الآن أربعة عشر مجلداً، وينتظر أن يصل إلى نحو ثلاثين مجلداً يتعاون على إصدارها عدد كبير من أعضاء المجمع وخبرائه ومن يعاونهم من الباحثين الفنيين المؤهلين تأهيلاً علمياً عالياً، والمدربين تدريباً عالياً كذلك، وهم يبذلون أقصى جهودهم لإنجازه في وقت قريب.