فرنسا لها سِجِل أسود ضد الشعوب والبلدان أثناء حقبتها الاستعمارية؛ فيدها متلطخة بدماء ملايين البشر الذين قتلتهم حينما هبوا للدفاع عن أوطانهم، واستخدمت أبشع طرق الفتك والتنكيل، وهي لم تكن راغبة في احتلال الأرض فحسب، بل واحتلال العقول أيضاً؛ لتضمن التبعية الدائمة والولاء المطلق لها، هذا كله رغم ما تدعيه من أنها بلاد النور والحرية وحقوق الإنسان، نعم هي كذلك للإنسان الغربي مسيحي الثقافة حتى وإن كان ملحد الديانة، لكنها مع الآخر وخصوصاً المسلم فإنها شديدة العنصرية والتعصب.
لقد أفل نجم فرنسا الاستعمارية، لكنها ما زالت تعيش على تاريخ إمبراطوريتها القديمة، ومن الأدوات التي تستخدمها لمد أمد النهاية ولو قليلاً، والاقتيات على التاريخ غير البعيد المنظمة الفرنكوفونية.
هذا المصطلح (الفرنكوفونية) الشائع الآن يرجع اشتقاقه إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وتحديداً في عام 1880م، الذي وضعه الجغرافي الفرنسي «أونزيم ريكلوس» (Onesime Reclus)، الذي يدل الآن على الأفراد والبلدان التي تستخدم اللغة الفرنسية استخداماً كلياً أو جزئياً، التي كانت مستعمرات فرنسية قديمة.
تحولت الفرنكوفونية إلى منظمة دولية تضم عدداً كبيراً من الدول، ومنها بعض الدول العربية والإسلامية، فهي تضم الآن 84 دولة وحكومة، من بينها 58 دولة عضواً و26 دولة تتمتع بصفة مراقب، وقد تأسست في 20 مارس 1970م في نيامي عاصمة النيجر، وقد اعتبروا هذا اليوم يوماً عالمياً للاحتفال بالفرنكوفونية، وفي مدينة باريس يقع المقر الرئيس لهذه المنظمة.
أهداف الفرنكوفونية
ذُكر أن هدف المنظمة هو الترويج للغة الفرنسية، «وتعزيز التعاون بين الدول والحكومات الأعضاء، وقد صيغ هذا الهدف رسمياً في ميثاق الفرنكوفونية الذي اعتمده مؤتمر قمة هانوي عام 1997م، ونقحه المؤتمر الوزاري عام 2005م في أنتاناناريفو»(1).
فالفرنسية رغم كل ما فعله أبناؤها في مستعمراتها من طمس للهويات ومحو للغات الوطنية، فإنها اللغة الخامسة عالمياً، وتأتي بعد اللغة العربية.
وتشهد عزوفاً عنها إلى الإنجليزية؛ لذا تعمل هذه المنظمة على نفخ الروح في اللغة الفرنسية، بل والترويج لها.
واللغة الفرنسية تستخدم كوسيلة للدفاع عن مصالح فرنسا في العالم، وترى فرنسا أنها إن لم تفعل ذلك فستفقد وتخسر الكثير(2).
وهذا واضح في ذهن القيادة السياسية، ففي عام 2018م قام رئيس الجمهورية الفرنسية بعرض الخطة الشاملة لترويج الفرنسية وتعدد اللغات في العالم، وكيف «تصب فرنسا تركيزها على اللغة الفرنسية باعتبارها أرضية مشتركة لمؤسسات الفرنكوفونية المتعددة الأطراف، ولا سيما المنظمة الدولية للفرنكوفونية»(3).
وهي مكلفة بأربع مهام رئيسة، هي:
1- ترويج اللغة الفرنسية وتعزيز التنوع الثقافي واللغوي على الصعيد الدولي وفي البلدان الأعضاء من خلال برامج تعاون محددة الأهداف.
2- تعزيز السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان عبر إقامة شراكات من أجل تسوية الأزمات والنزاعات في الحيز الفرنكوفوني.
3- دعم التعليم والتدريب المهني (تدريب المدرسين، والتعليم الثنائي اللغة).
4- توطيد التعاون لخدمة التنمية المستدامة (مؤازرة أنشطة التنمية المستدامة وتقديم الدعم التقني في المفاوضات الدولية)(4).
واللغة وعاء الثقافة وعنوان الهوية، والفرنسيون لا يقبلون بالتنوع الثقافي، وكان إحلال لغتهم محاولة منهم لفرض التبعية ومسخ الهوية، يقول «دي روفيكو»: «إني أنظر إلى نشر تعليمنا ولغتنا كأنجع وسيلة لجعل سيطرتنا في هذا القطر (الجزائر) تتقدم في إحلال الفرنسية تدريجياً محل العربية؛ فالفرنسية تقدر على الانتشار بين السكان خصوصاً إذا أقبل الجيل الجديد على مدارسنا أفواجاً أفواجاً»(5).
وهذه الرؤية والتوجه لهم أثمرت وآتت أكلها؛ حيث إننا نسمع بعض المتفرنسين يقول: المنظمة روح وفكر وثقافة وحضارة(6).
المؤسِّسون رموز تبعية
من العجيب أن هذه المنظمة لم تقم على أيدي الفرنسيين، بل على أيدي عرب وأفارقة وآسيويين، وهؤلاء رأوا أن الفرنسية (اللغة والثقافة) رابطة وجامعة تجمعهم!
والأعجب من ذلك أن هؤلاء المؤسسين كانوا القادة الذين أتوا رؤساء بعد استقلال بلدانهم عن فرنسا! فـ «ليوبولد سيدار سنغور» أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال عن فرنسا، وكذا «الحبيب بورقيبة» في تونس، و»حماني ديوري» في النيجر، هؤلاء صاغوا ميثاق وكالة التعاون الثقافي والتقني في عام 1970م، التي تغير اسمها إلى المنظمة الحكومية الدولية الفرنكوفونية عام 1998م، وفي عام 2005م أصبح اسمها المنظمة الدولية للفرنكوفونية(7).
فـ «سنغور» رأى في اللغة الفرنسية صلة وصل ممكنة بين الشعوب، بوسعها أن تنسج «إنسانية متكاملة»؛ لذا تم تخليد اسمه بإنشاء جامعة تابعة للمنظمة في الإسكندرية.
وهذا «بورقيبة»، في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية، يقول: «إن مستقبلنا مرتبط بمستقبل الغرب عموماً ومتضامن مع مستقبل فرنسا خاصة، ونحن نتجه اليوم من جديد إلى فرنسا.. إنني أنا الذي تزعمت الحركة المنادية بالفرنكوفونية؛ فالرابطة اللغوية التي تجمع بين مختلف الأقطار الأفريقية أمتن من روابط المناخ أو الجغرافيا»(8).
ورغم ارتماء هؤلاء في أحضان فرنسا، فإنها لم تمنع من الانقلاب على «بورقيبة»، أو «حماني».
وتهتم المنظمة ومن ورائها فرنسا بتوسيع دائرة المنظمة لتشمل عدداً أكبر من الدول، ولا يهمها إن كانت هذه الدول تمارس الشورى والديمقراطية أم أنها تقمع شعوبها، فالمهم أن ترعى هذه الدول مصالح الغرب عامة وفرنسا خاصة.
وهذا ما دعا البعض إلى نقد تلك المنظمة التي تحوي تحت مظلتها بلداناً تتجاهل بل وتنتهك حقوق الإنسان، وتقمع الحريات.
تهديد اللغات والهويات
ذكر «ستيفان لوبيز»، أحد المسؤولين بالمنظمة، في محاضرة ألقاها بعنوان «الفرنكوفونية.. تاريخ وتطورات وإنجازات»، أن المنظمة «تهتم بالدرجة الأولى بالجوانب الثقافية أكثر من الجوانب السياسية للدول الأعضاء، وتهتم بنشر الثقافة، وإقامة معارض الكتب وتبادل الخبرات والدورات بشأن كل ما يتعلق باللغة الفرنسية».
فهذا يعني أنها رأس الحربة لفرنسا في الغزو الفكري والثقافي والعبث بالهويات؛ لذا يرى «سيدي غالي لو» أن للفرنكوفونية مخاطر كبيرة، تتمثل في:
1- سعيها لإحلال القوانين المستمدة من الفكر العلماني محل القوانين المحلية في الدول الأعضاء التي معظمها دول إسلامية ذات صلة بتعاليم الإسلام.
2- نشر اللغة الفرنسية مع محاربة اللغات المحلية وخاصة العربية الفصحى في الدول الأعضاء في الفرنكوفونية.
3- ممارسة الغزو الفكري وعملية غسل المخ من خلال إنشاء جامعة فرنكوفونية عالمية.
4- خلخلة القيم الدينية والأخلاقية في البيئات الإسلامية وتوجيهها نحو الحياة الاجتماعية الغربية الفاسدة من خلال وسائل إعلام مختلفة.
5- تشتيت شمل المسلمين، وبث الخلافات بين الدول الإسلامية بسبب موالاة بعضها لمعسكر الفرنكوفونية ضد البعض الآخر الموالي لمعسكر الكومنولث البريطاني؛ مما يحول دون تحقيق وحدة حقيقية بين هذه الدول»(9).
فالمنظمة وريثة فرنسا الاستعمارية، وتكمل مسيرة الاستدمار والاستخراب للشعوب التي سبق احتلاها، يقول د. عمر النمري: «لا شك عندي في أن الفرنكوفونية إنما استهدفت تنحية اللغة العربية، ومن ثم استبعاد الثقافة الأصلية للشعوب المستعمَرة؛ لا بل استبعاد الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية لهذه الشعوب؛ ولا سيما أن أغلب الشعوب الأفريقية تدين بالإسلام وتنتسب إلى الحضارة الإسلامية؛ وذلك بهدف إحلال الفرنسية محلها وتحقيق الإلحاق الثقافي والحضاري، لا بل الإلحاق الجغرافي أيضاً كعزمهم السابق على إلحاق الجزائر بالقطر الفرنسي»(10).
يعول الساسة الفرنسيون كثيراً على تلك المنظمة لتجعل لهم موطئ قدم في عالم سريع التغيرات، وتتبدل فيه موازين القوة بسرعة، وهذا التعويل يظهر في قول الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» خلال زيارته لتونس عام 2018م حينما قال: «إن الفرنكوفونية ليست مشروعاً قديماً، بل هي مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية تعد فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية»(11).
الهوامش
(1) الفرنكوفونية حيز للتعاون متعدد الأطراف منشور على موقع «الدبلوماسية الفرنسية».
(2) استمع إلى الحلقة النقاشية: منظمة الفرنكوفونية: تكتل ثقافي أم سياسي؟ على موقع قناة «فرنسا 24».
(3) الفرنكوفونية حيز للتعاون متعدد الأطراف، منشور على موقع «الدبلوماسية الفرنسية».
(4) المرجع السابق.
(5) ساكري البشير: هل لا تزال الجزائر محمية فرنسية (مقالة)، مجلة البيان، 23/8/2015م.
(6) استمع إلى الحلقة النقاشية: منظمة الفرنكوفونية: تكتل ثقافي أم سياسي؟
(7) انظر:
https://www.britannica.com/topic/Organisation-Internationale-de-la-Francophonie.
(8) عمر النمري: الفرنكوفونية استعمار أم استخراب، مجلة البيان، العدد 178، 2002م، ص48.
(9) سيدي غالي لو: الفرنكوفونية كما هي الميلاد والنشأة والسياسة، مجلة البيان، العدد 238، باختصار.
(10) عمر النمري: الفرنكوفونية استعمار أم استخراب، مجلة البيان، العدد 178، 2002م، ص48.
(11) https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-42919547.