في يوم الثلاثاء 29 سبتمبر 2020، أعلن عن وفاة حاكم الكويت الـ15 الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، عن عمر يناهز الـ91 عاماً.
ويعد الشيخ صباح، رحمه الله، من المخضرمين السياسيين في المنطقة العربية، بل في العالم؛ إذ عاصر ما يقارب 6 عقود بما فيها من متغيرات وتحولات محلية وإقليمية ودولية، فقد عاصر بدء النهضة الكويتية في الستينيات من القرن العشرين وما تلاها من نمو اقتصادي وتفاعل سياسي، وعاصر الحقبة القومية العربية وأفول نجمها ونتائجها على المنطقة، وحقبة الصراع بين القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والتحولات العالمية في السياسة والاقتصاد والعولمة الثقافية والمتغيرات، وإلى سقوط الاتحاد السوفييتي، واحتلال الكويت عام 1990 من قبل العراق وتحريرها في فبراير 1991، وهكذا فالأحداث التي شهدها متعددة ومختلفة ومتعارضة، وعاش زمن الانتكاسة والتشرذم العربي، والسيطرة من إيران على مدن عربية، وتعالي صيحات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وعقد ضعف العرب وتفتت وحدتهم وجامعتهم، وانتفاضة الثورات العربية، حتى أصبحت الكويت واقعياً دولة تعيش بين أزمات متفجرة وخطوط احتراب والتماس مع قوى إقليمية وصراع محاور إقليمية ودولية في المنطقة، وفوضى واحتراب في المنطقة العربية أنهكت أي قوة عربية ترنو إلى أي مشروع وحدوي أو تنموي أو تكاملي اقتصادي أو سياسي، وعندما تصبح دولة صغيرة بهذا الحجم أمام هذه المتغيرات والفواعل القوية التي تسيطر على مسار السياسة والحراك الأمني والإقليمي، فإن السير بالدولة سيكون أمامه تحدٍّ كبير.
السياسة الخارجية في العلاقات الدولية للأمير صباح (2006-2010)
منذ توليه إمارة دولة الكويت، ونظراً للتجربة العريقة في ممارسة العلاقات الخارجية منذ مطلع الستينيات إلى عهد الإمارة (2006)، فإن تلك الخبرة من التجارب السياسية في العلاقات الخارجية قد تمت صياغتها في شكل منهجية عمل وسياسات محكمة للتعامل مع الواقع الجديد لدولة صغيرة بين ثلاث دول إقليمية قوية تاريخياً كانت العلاقات معها ما بين توافق وصدام وحذر وتفاهم، بحسب طبيعة التحديات والمسارات الإستراتيجية المؤثرة الدولية والإقليمية، واختلاف المصالح ونقاط التوتر، كالانحياز في المحاور الإقليمية، أو الخلاف حول المصادر والثروات الطبيعية في الحدود البحرية والبرية المختلَف عليها، أو الحشد نحو القضايا القومية والعربية.
لذا، كانت المنهجية التي مارسها الشيخ صباح مميزة كمدرسة جديدة تعلمت بالتجربة، واستنفذت من خلال الممارسات والواقعات السياسية.
مدرسة “الواقعية – المثالية”
يعتبر نهج الشيخ صباح الأحمد الصباح، رحمه الله، تجربة جديدة دمجت بين المدرستين؛ “المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية”، و”المدرسة المثالية”، فالمدرسة المثالية التي أسسها الرئيس “وودرو ويلسون” بعد الحرب العالمية الأولى التي أسست أربعة عشر مبدأ للسلام الدولي، وركزت على أهمية تعزيز الإيجابية التي يريدها صانع السياسة محلياً في بلده أن يكون لها صورة انعكاسية تجاه الدول الأخرى، فمثلاً أن السلام المحلي يقتضي الاتجاه نحو السلام الدولي والعالمي في العلاقات مع الدول الأخرى، وهي امتداد للمثالية الأخلاقية التي دعا لها مفكرو عصر التنوير، إذ إن الصراع الدولي ينزع كثيراً نحو ضد مبادئ العقل، وتعتمد على نوايا الدول الإيجابية.
أما المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية فإنها تجعل المركزية للدولة ومصالحها الأنانية، ولن تجعل هذه المصلحة خاضعة للدول الأخرى، وهذا يقتضي فرض المصالح بالقوة؛ مما يسارع في عملية التحفيز نحو بناء القوة العسكرية والتحالفات لحصد المصالح الخاصة، وتسعى كل دولة لتعظيم قوتها الذاتية أو بإعادة تمحورها بقوى وازنة تساندها إقليمياً ودولياً؛ ما يجعل دولاً ذات قوى نسبية تتفوق على الأخرى، ولذلك نشأ مبدأ توازن القوى في نظام القطبين، وإن وجد نظام القطب الواحد سيجعل العالم مختلفاً في مصالحه ويزداد الاحتراب الإقليمي والدولي، ويعتبر أهم من نظَّر لهذه المدرسة مفكري السياسة في الولايات المتحدة أمثال “دوارد هاليت”، و”هاليت كار”، و”هانز مورغنثاو”، و”راينهولد نيبور”، وفي اعتقادي أن الشيخ صباح الأحمد الصباح قد أسَّس نظرية في العمل في العلاقات الدولية بناء على أن دولة الكويت دولة صغيرة عدد سكانها لا يتجاوز 4 ملايين نسمة من المقيمين على أرضها، وحدودها الجغرافية لا تتجاوز 17.818 كم²، وتعتمد على مصدر واحد من الدخل وهو إنتاج النفط الذي يشكل 80% من إيرادات الدولة، وهي دولة ذات طبيعة منبسطة، ولا توجد أي معالم طبيعية حماية للدولة، ولديها حدود بحرية مغلقة بنهاية مضيق هرمز، ولا توجد مصادر مياه كالأنهار أو البحيرات، وهي بين ثلاث دول كبرى ذات كثافة سكانية وطبيعة إستراتيجية ذات وزن جيوبوليتيكي قوي يمكن لتلك الدول حسم الصراع باحتلال دولة الكويت في حال أي خلاف إستراتيجي، كما حدث في قرون ماضية بين الدول الثلاث الكبرى (إيران، العراق، السعودية)، أو كما حدث باحتلال العراق للكويت عام 1990؛ لذا فإن اتباع منهج سياسي في العلاقات الدولية يحقق المصالح الذاتية مع تعزيز التفاهم الدولي والإقليمي نحو مبادئ مثالية في خضم متغيرات وتحولات صراع دولي وإقليمي هو منهج إدارة الشيخ صباح الأحمد بكل اقتدار.
هذا المزج بين المدرستين الواقعية والمثالية هو الذي أسَّس لنظرية العمل “الواقعية – المثالية”، التي إذا استمرت بعد عهد الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، فإن الكويت ستظل مركزاً مثالياً للعلاقات الدولية والإقليمية تنظر لمصالحها، وتتفحص الواقع الإقليمي والدولي بعناية، وتلتوي حول متفجرات السياسة الدولية دون الوقوع في فخاخها، وتشجع على ممارسة وتطبيق مبادئ مثالية تحقق مصالح الجميع.
محاور هذه النظرية (الواقعية – المثالية) تقوم على ما يلي:
أولاً: تقدير مصلحة الأمن القومي الوطني لدولة الكويت:
وذلك بتحليل هذه المصلحة والمتمثلة في تأسيس طوق من المحيط الحيوي للكويت؛ بتثبيت السيادة الوطنية واتفاقيات التفاهم الدفاعية والأمنية المتعددة، والحفاظ على وحدة وتماسك القوة الاجتماعية في الدولة، وعدم فتح المجال لأطراف داخلية للتدخل في مسارات العلاقات الدولية، وجعلها في يد مركز واحد وهو السلطة التابعة للأمير عبر مؤسسة الخارجية الكويتية وأدواتها السياسية.
ثانياً: التترس بالقوة المعترف بها دولياً بشكل متوازن دون اللجوء لاتفاقات أمنية ثنائية مع أي دولة إقليمية:
حيث وقعت الكويت أكثر من اتفاقية تفاهم وتعاون ودفاع مشترك مع الدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين)، وذلك منذ حرب تحرير الكويت عام 1991 إلى اليوم؛ حيث تجدِّد وتنشئ بعضها من جديد بحسب طبيعة التحولات والمتغيرات، وقد ساهمت هذه الاتفاقيات في حماية وإبعاد شهوة الصراع الإقليمي للضغط على دولة الكويت إلى هذا اليوم.
ثالثاً: الحياد المتوازن في الصراعات الإقليمية والدولية والبعد عن الانتماء للمحاور الإقليمية:
فقد التزمت دولة الكويت في عهد الشيخ صباح، رحمه الله، بالتزاماتها الدولية والإقليمية المؤسسية دون الجنوح للاصطفاف للدخول المباشر في أتون الصراع في الخليج أو اليمن أو العراق أو سورية، وهي مناطق تقتضي أن يكون للكويت دور قومي فيها، ولكن الكويت وفق سياسة “الواقعية – المثالية” لم تدخل في أي محور من محاور الصراع إلا وفق اتفاقيات شرعية متفق عليها؛ كاتفاقية الدفاع في دول مجلس التعاون الخليجي وفي الحدود التي تقتضيها تلك الاتفاقية، وكانت المصلحة الواقعية هي حفظ الكويت من أي تدخلات لأطراف الصراع الإقليمية، وفي الوقت نفسه تهدف من هذه السياسة في المثالية في تحسين حالة السلام في المنطقة، وتقليل الخسائر، والحفاظ على وحدة وتماسك المنطقة أمام العلو الصهيوني والإيراني والدولي.
لذلك، لم تشارك في غرفة “الموك” التي أسستها دول إقليمية برعاية الدول الكبرى (من دون روسيا والصين) في صراع سورية، وكذلك في الوقت نفسه وقفت مع الشعب السوري في محنته وتحملت الإغاثة الإنسانية لهذا الصراع.
وفي خضم الصراع في مصر بين انقلاب العسكر والقوى الشعبية المتترسة بالدستور عام 2013، وقفت مع استقرار مصر كما وقفت مع مصر الدستورية الثورية عام 2011، وفي اليمن وقفت مع الشرعية اليمنية واتفاقاتها مع دول التحالف دون المبالغة، ورعت الأطراف اليمنية للمصالحة، ولهذا فإن السياسة “الواقعية – المثالية” جعلت الكويت نموذجاً فريداً في التعامل مع الصراع الدولي والإقليمي.
رابعاً: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم دعم أطراف الصراع فيها:
وهذا ما قررته منهجية مدرسة الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، بأن التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف المتنازعة داخل دولها هو شأن داخلي لا تساهم فيه أو تشارك المنظومات الإقليمية والدولية فيه، كما حدث في صراع الدولة العراقية مع المليشيات وداعميها بكل الاتجاهات، ورفضت التدخل التركي في عملية “غصن الزيتون” أو في العراق تحت هذا المبدأ، كما رفضت التدخل في الشؤون السودانية أثناء ثورة التغيير وما بعدها، ولم تساهم بأي دور في تنمية الصراع الداخلي بين أي معارضة أو حكومة في نطاقها الإقليمي أو العربي.
خامساً: الاعتراف بالشرعية الدستورية والدولية:
عندما انقسم العالم العربي بعد عقد الثورات عام 2010، وأصبحت الجغرافيا العربية مسرحاً للصراع الإقليمي والدولي، في هذا الصراع الذي لا مناص من التَّماس معه، والانثناء أمام الضغوط، فإن الكويت وقفت دائماً مع الشرعية الدستورية والدولية التي أقرتها شعوب تلك الدول، واعترفت بها الشرعية الدولية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فهي لم تنزلق مثل بعض الدول الخليجية والعربية في التدخل لتغير تلك الشرعية أو الإخلال بمبدأ سيادتها كشرعية محلية، كما فعلت بعض الدول في ليبيا واليمن وسورية والسودان والعراق؛ لذا فإن هذه السياسة قللت الكلفة السياسية والمالية على دولة الكويت، ولم تستنزف اقتصادها في حروب لم تُنشئها أو تخطط لها؛ لذا ظلت الكويت دولة تُحترم من جميع الأطراف المحلية، وتقبل بوساطتها ومبادراتها؛ لأنها ليس لها أي مصلحة في ترجيح كفة طرف على الآخر.
سادساً: رفض الاحتراب والدعوة للتفاهم والسلام:
ساهمت الكويت وفق سياستها “الواقعية – المثالية” في تخفيض حدة الاحتراب بين الأطراف والدعوة للتفاهم والسلام الوطني في المنطقة العربية، إما بدعم القرارات الدولية بهذا الشأن في كل القضايا ذات الصلة في الأمم المتحدة وخصوصاً وقت رئاستها لمجلس الأمن، أو عبر الوساطات التي شاركت فيها والمبادرات التي دعت إليها؛ إما بدعوة الأطراف دون الإعلان عن ذلك، أو بالمبادرات المعلنة، كما في أبريل 2016 بين الأطراف اليمنية برعاية الأمم المتحدة وضيافة الكويت كوسيط محايد.
سابعاً: تشجيع الالتزام بالقانون والقرارات الدولية وعدم تجاوز الحقوق وترسيخ العدل:
لقد أكدت الكويت، وفق سياسات الشيخ الراحل، رحمه الله، تنفيذ القرارات الدولية بشأن الحقوق الفلسطينية في كل المحطات الدولية، وكان لرئاستها لمجلس الأمن عام 2019 دور بارز في الوقوف مع القضايا العادلة للمنطقة العربية والقضية الفلسطينية والقضايا العادلة للعالم الإسلامي (كقضية كشمير وشعب الروهنجيا).
كما إن رفضها لمبدأ التطبيع مع الكيان الصهيوني التزاماً بالسياسة المثالية والواقعية في آن واحد، وإن صلابة موقف الأمير الراحل، رحمه الله، واضحة في أكثر من موقف في هذا الموضوع.
ثامناً: الاعتراف بالبعد الجيوستراتيجي لدولة الكويت والانحياز له عند نقاط التماس والصراع:
لقد ظلت الكويت بطبيعتها الانفتاحية ذات صلة وعلاقات طبيعية وحذرة أيضاً مع الدول الثلاث (السعودية، إيران، العراق)، لكن في حالة الخلاف الإستراتيجي حول الأولويات والمصلحة الإستراتيجية للمنطقة، فإن الكويت تنحاز تلقائياً مع بُعدها الخليجي المتكامل، سواءً فيما يتعلق بالتدخلات غير الشرعية والقانونية؛ كما في اليمن، أو الاعتداءات الإيرانية على دول الخليج، أو التحركات الداخلية لأطراف داخلية مرتبطة بإيران أو العراق مذهبياً وطائفياً، لكنها في كل الأوقات ملتزمة بدستورها في أي اتفاقية أمنية، خصوصاً فيما يتعلق بالاتفاقية الأمنية الخليجية، فهي لها خصوصيتها ودستورها الملزم للسياسة الخارجية بالتقيد بضوابط الدستور وحقوقه.
وتتميز العلاقة بمصر ببُعد إستراتيجي قومي عربي ليس له علاقة بطبيعة النظام الحاكم، وإنما بطبيعة الكتلة الإستراتيجية التي تمثلها مصر لتوازن الصراع العربي مع الكيان الصهيوني والنفوذ الإيراني في المنطقة، فالكويت في ظل هذه السياسة وقفت مع نتائج انتخابات عام 2012 كدولة مصرية، ووقفت مع نتائج النظام العسكري الانقلابي أيضاً باعتبار ذلك قد غُطِّي بتحركات شعبية وممارسات قانونية، وفي الوقت نفسه لم تستجب الكويت لوضع جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، إذ إن ذلك ليس من سياستها تجاه أي طرف محلي في الصراع بمصر، ولقد كان للبيان الذي أصدره نائب مرشد الإخوان الجديد إبراهيم منير ثناء بارز على دور الأمير الراحل في المنطقة العربية، إذ إن الكويت لم تلتحق بمحور دول وقفت ضد نتائج الثورات الدستورية.
ومن ذلك أيضاً، فإن الكويت في تعاملها مع العراق الجديد (الطائفي) لم تنحز للمذهب السُّني، وإنما تعاملت مع الدولة العراقية بكيانها الموجود الدستوري، وساهمت أيضاً في تعزيز إشراك السُّنة العرب في حكم العراق ودعم المنطقة السُّنية بعد أحداث “داعش” كدعم إنساني بالدرجة الأولى.
تاسعاً: الثبات والصلابة في حسم السيادة الكويتية:
لقد حسمت الكويت بسياستها “الواقعية – المثالية” مسألة السيادة فيما يتعلق بترسيم الحدود الجنوبية البرية والبحرية في المنطقة المحايدة مع المملكة العربية السعودية، في ديسمبر 2019، وأنهت قرناً من الخلاف الحدودي مع المملكة العربية السعودية.
لقد كانت لسياسة الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، الهادئة والصلبة وطول النفس لتدشين الاتفاقية الحدودية، كما إن حسم الخلاف حول حقل الدرة مع إيران ثم حسمه، وإذا أضفنا أن ترسيم الحدود العراقية قد تم تحت إشراف الشيخ صباح الأحمد الصباح، رحمه الله؛ وبالتالي فإن السيادة الكويتية على أراضيها قد حسمت، وذلك بفضل طبيعة السياسة الواقعية المثالية للشيخ صباح التي مارسها خلال تجاربه الطويلة في العلاقات الدولية.
أدوات السياسة الخارجية التي استخدمت في إطار السياسة “الواقعية – المثالية”
تتمثل أهم الأدوات السياسية الخارجية التي انتهجت في عهد الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، فيما يلي:
أولاً: تشجيع المبادرات الإقليمية والدولية:
فقد ساهمت الكويت في عهده بكل المبادرات في المنطقة العربية التي تشجع المصالح المثالية للدول والشعوب، فهي تدعم كل القرارات والمبادرات الدولية لإحلال التفاهم الوطني والإقليمي بين الأطراف المتنازعة أو الأطراف الإقليمية.
وكان من أهمها المبادرة في الوساطة الخليجية بين قطر ودول الحصار (السعودية، الإمارات، البحرين) التي أثمرت بوقف التوسع في حصار قطر، وإيقاف تدخل عسكري تجاهها.
ثانياً: الكويت محضن للتفاهمات بين الأطراف اليمنية المتخاصمة:
ففي أبريل 2016، أطلقت مبادرة لاستضافة مباحثات السلام اليمنية برعاية الأمم المتحدة، وتدخل الأمير مباشرة لضمان نجاحها، وقد خففت في حينها من الصراع بين هذه الأطراف، وأسست لتفاهمات مستقبلية إن شاءت هذه الأطراف وتبنت إرادة السلام المحلية والوطنية لليمن.
ثالثاً: الدبلوماسية الإنسانية:
لقد قُلِّد الأمير الراحل وسام “قائد العمل الإنساني”، في 9 سبتمبر 2014، بتكريمه هذا الوسام بمباركة من الأمين العام للأمم المتحدة، وسميت الكويت “مركزاً للعمل الإنساني”؛ وذلك للمساهمات الإنسانية التي بذلتها الكويت طيلة العقدين الماضيين على أقل تقدير، وخصوصاً عندما واجهت منظمة “الأونروا” أزمة مالية حادة قامت الكويت بدعم المنظمة لتؤدي دورها تجاه الفلسطينيين اللاجئين، كما ساهمت الكويت في دعم المناطق الشمالية للعراق بعد كوارث الحرب الأهلية الأخيرة بأكثر من 200 مليون دولار، وساهمت الكويت بسخاء تجاه اليمن في محنته الإنسانية.
وأما الشعب السوري الصابر، فقد ساهمت الكويت بدعم كبير للاجئين والمتضررين من الحرب الأهلية، حيث استضافت الكويت برعايتها المؤتمر الدولي للمانحين لدعم الوضع الإنساني في سورية ثلاث دورات متتالية، وأعلنت تبرعاً بمئات الملايين لإغاثة اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري.
وفي لبنان، فإن الكويت لم تتوقف عن الدعم المستمر إغاثياً في محنته الاقتصادية، وخصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت منذ أشهر.
أما القضية الفلسطينية، ففي عهد الشيخ صباح الأحمد الصباح، رحمه الله، فإن سياسة الدعم الإغاثي والإنساني لم تتوقف للشعب الفلسطيني، كما دعمت إيران بعد كوارث الزلازل التي نزلت بها في العقد الماضي والحالي.
رابعاً: توظيف الصندوق الكويتي للتنمية لصالح الاستقرار السياسي للدول الشقيقة والصديقة في العالم:
لقد استمرت رسالة الصندوق الكويتي للتنمية، منذ تأسيسه في 31 ديسمبر 1961، لدعم الدول الصديقة والشقيقة لمزيد من التنمية والاستقرار في هذه الدول وعلى مختلف القارات، واستشعرت كل هذه الدول المنتفعة من هذا الدعم السياسي الكويتي التنموي وبادلتها بالموقف المؤيد لها في كل المحافل الدولية، وخصوصاً في دعمها لرئاسة مجلس الأمن الدولي للمرتين الثانية والثالثة (2018-2019).
لقد تم استثمار هذا الصندوق لصالح الواقعية المثالية تنمية السلام الداخلي بالاقتصاد لهذه الدول، في مقابل موقف مؤيد للسياسة الكويتية في المحافل الدولية أو على مستوى المنطقة.
كما كانت التبرعات الحكومية ضرورية كأداة في سياق هذه السياسة.
في نوفمبر 2007، تبرع الشيخ صباح، رحمه الله، في القمة الثالثة لمنظمة “أوبك” التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض بمبلغ 150 مليون دولار لدعم برنامج يمول البحوث العلمية المتصلة بالطاقة والبيئة والتغير المناخي.
وفي مايو 2008، أنشأت دولة الكويت صندوق الحياة الكريمة، وساهمت بمبلغ 100 مليون دولار في هذا الصندوق لمواجهة الانعكاسات السلبية لأزمة الغذاء العالمية على الدول.
وفي يناير 2009، أطلق الشيخ صباح، رحمه الله، مبادرة دعم وتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة خلال مؤتمر القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية برأسمال قدره مليارا دولار، كما مهدت المبادرة لتحقيق المصالحة بين قادة الدول العربية من خلال تعزيز الأجواء الإيجابية.
وفي يوليو 2012، أعلن الشيخ صباح خلال مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي عن تبرع دولة الكويت بتكاليف تجهيز المقر الجديد للمفوضية العامة للاتحاد الأفريقي بجميع مستلزماته في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وفي يونيو 2019، قام الأمير الراحل بزيارة رسمية للعراق، كانت هي الأولى من نوعها لبغداد منذ 20 عاماً، ودشن خلالها عهداً جديداً في مسيرة العلاقات على مختلف المستويات بين البلدين.
خامساً: استخدام القدرات الشخصية والسجل من الخبرات والعلاقات الدولية والزيارات والجولات:
لقد كان للأمير الراحل وزن سياسي دولي وإقليمي، فهو من الساسة المحنكين دولياً، ولديه من الإمكانات الشخصية والقدرات التي تحول الحلول إلى واقع.
ويكفي للراحل تدخله لحل مشكلة “حصار قطر”؛ إذ استطاع من خلال شخصيته وحياده السياسي أن يهدئ الأوضاع ويؤجل القرار السياسي الخليجي لاختيار المصلحة الكلية لِدُوَلِهِ.
سادساً: المفاوضات طويلة النفس من أجل الحقوق الكويتية:
لقد اتبع الشيخ الراحل سياسة “النفس الطويل”، وفي الوقت نفسه الإطار القانوني الشرعي الدولي والإقليمي، ومن ذلك الجولات المكوكية في حل مشكلة حصار قطر وزياراته لدولها، وكذلك في حل مشكلة الحدود البرية والبحرية في المنطقة المحايدة وإنهائها، في ديسمبر 2019.
لقد كانت لتلك السياسة الهادئة المتصلبة نتائج إيجابية لصالح الأمن الوطني الكويتي.
النتائج
لقد كان من نتائج دمج “الواقعية بالمثالية” للسياسة التي رسمها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، نتائج مهمة تتمثل في:
أولاً: الاستقرار الداخلي والجيوستراتيجي الإقليمي والمحافظة على سيادة دولة الكويت.
ثانياً: تخفيض حدة التوتر في ملف الخلاف الخليجي وحصار قطر، وإحداث توازن في الموقف الإقليمي والدولي تجاه هذا الملف.
ثالثاً: علاقات متوازنة ذات مصالح مستقرة مع الدول الإقليمية الكبرى الثلاث (إيران، السعودية، العراق).
رابعاً: ترسيم الحدود البرية والبحرية مع السعودية واسترجاع الحقوق النفطية للكويت.
خامساً: تثبيت ترسيم الحدود مع العراق وإعطاء المجال لمشروع ميناء مبارك ومنطقة الحرير لتنفيذها في المستقبل.
سادساً: تدبير الحماية الدولية الدفاعية للكويت كدولة صغيرة في مثلث إقليمي ضاغط.
سابعاً: انحياز دولي وإقليمي لسيادة الكويت واستقرارها واحترام خصوصياتها وأمنها.
ثامناً: سمعة شعبية عربية وإقليمية وعالمية عند كل شعوب العالم كشعب صغير بعدده وضعفه الجيوبوليتيكي، لكنه شعب كبير في عطائه وتأثيره في السياسة الإقليمية والدولية.
رحم الله الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، الحاكم الخامس عشر لدولة الكويت، مؤسس المدرسة “الواقعية – المثالية” ممارسة وتاريخاً، وقد تكون تلك المدرسة مثالاً يحتذى به للسياسة الخارجية الكويتية في عهدها الجديد.
_________________________________
مقال رئيس التحرير بالتزامن مع مجلة “الأفق الإستراتيجي”، السنة الأولى، العدد الثامن.