بعد 4 سنوات من رئاسة استثنائية لـ»دونالد ترمب»، عاد الديمقراطيون للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال «جو بايدن»؛ وهو ما دفع العديد من الدول لإعادة حساباتها بخصوص العلاقات مع واشنطن، بالنظر للتوقعات بسياسة خارجية مختلفة مع الرئيس الجديد، وفي مقدمة هؤلاء تركيا.
منذ نهاية الحرب الباردة، وبشكل أكثر وضوحاً منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، تعاني العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن من اضطراب وتذبذب واضحين؛ لعل سببهما الرئيس اختلاف الظروف عما كانت عليه خلال الحرب الباردة في ظل إصرار واشنطن على التعامل وفقها.
لقد تغيرت تركيا كثيراً؛ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى صعيد الأدوار التي تمارسها في المنطقة والعالم والأزمات التي انخرطت فيها بشكل مباشر وغير مباشر، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تريد التعامل معها كقاعدة متقدمة لـ»الناتو» في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق أو روسيا اليوم.
ثمة من يرى أن «ترمب» كان داعماً لتركيا بدليل تواصله مع «أردوغان» ومماطلته بتوقيع العقوبات
مع «ترمب»، يبدو أن هذا الاضطراب زاد كثيراً بسبب الارتجال الذي ميّز سنواته الأربع في البيت الأبيض بشكل عام ومع تركيا على وجه الخصوص، ثمة من يرى بأن ترمب كان داعماً لتركيا خلال فترة رئاسته، بدليل تواصله الحثيث مع نظيره التركي وامتداحه عدة مرات فضلاً عن مماطلته في توقيع عقوبات على تركيا رغم ضغط الكونغرس بهذا الاتجاه.
ورغم أن ما سبق صحيح، فإنه ليس دقيقاً، ذلك أن التواصل الفردي المباشر –وتجاهل المؤسسات– كان أسلوب «ترمب» في الإدارة، ورغم ذلك لم تكن علاقات بلاده مع أنقرة خلال فترة رئاسته وردية؛ فهو نفسه الذي هدد بتدمير اقتصاد تركيا في تغريدة له، وهو الذي ساهم بتحريك أزمة مالية في تركيا عام 2018م من خلال التصعيد والتهديد، وهو الذي أرسل رسالة لـ»أردوغان» تفتقر لأدنى معايير الدبلوماسية واللباقة، وهو الذي أوقع على تركيا عقوبات –شملت مجال الصناعات الدفاعية– في أيام رئاسته الأخيرة بسبب صفقة «S400” الصاروخية الروسية.
رغم كل ما سبق، كانت تركيا ترغب بالتعامل مع «ترمب» في دورة رئاسية ثانية على التعامل مع «بايدن»؛ لسببين رئيسين:
الأول: أنها خبرت التعامل مع الأول وأدارت العلاقة معه بالحد الأدنى من الأضرار المتوقعة، ذلك أن كواليس أنقرة تعترف بما فعله «ترمب» –مما سبق تفصيله– لكنها ترى أن أي إدارة ديمقراطية كانت لتفعل أضعاف ذلك.
الثاني: أنه إضافة لتفضيل تركيا تقليدياً الإدارات الجمهورية على الديمقراطية، ثمة ما يتعلق بـ»بايدن» نفسه؛ فالرجل المعروف بقربه من اللوبي اليوناني في بلاده وبمواقفه الأقرب لليونان بخصوص القضية القبرصية وغيرها، أزعج أنقرة بتصريحاته خلال حملته الانتخابية؛ ففي ديسمبر 2019م، وفي مقابلة صحفية، وصف «بايدن» الرئيس «أردوغان» بـ»المستبد»، داعياً بلاده لدعم المعارضة لإسقاطه، فضلاً عن تفاصيل أخرى تتعلق بسياسة تركيا الخارجية وعلاقاتها مع بلاده بما في ذلك مسار العقوبات، ولئن قال الرجل لاحقاً: إنه قصد إسقاطه عبر صندوق الانتخابات، إلا أن ذلك لم يغير وقع تصريحاته على أنقرة، ما يذكر باعتذارات سابقة كان قدمها حين كان نائب «أوباما»، منها اعتذاره عن اتهام تركيا بدعم «داعش».
الآن، مع انتخابه لم يعد أمام تركيا -وغيرها من الدول– إلا التعامل مع «بايدن»، بل لعل هناك ما يدفعها للتفاؤل النسبي بأن العلاقات مع واشنطن خلال عهده لن تكون كارثية بالضرورة كما تخوّف كثيرون خلال حملته الانتخابية؛ ذلك أن كثيراً من التصريحات والمواقف سوف تُترك خلف الظهور وتُنسى مؤقتاً؛ لتحل محلها الرؤى الإستراتيجية والمصالح المشتركة والبراغماتية السياسية وتوجيهات المؤسسات المختلفة.
كما أن «بايدن» وطيفاً مهماً من فريقه الذي اختاره يعرفون تركيا عن قرب، وهذا وإن لم يكن مصلحة تركية خالصة بالضرورة، فإنه أقرب لأن تكون أنقرة قادرة على إيصال ما تريده لواشنطن، وأن تفهمه الأخيرة بشكل جيد بعيداً عن سوء الفهم الناتج عن قلة الخبرة أو الجهل، ولعل في تصريحات وزير الخارجية الذي اختاره «بايدن» –»أنطوني بلينكن»– ما يشير إلى ذلك؛ إذ يبدو مدركاً لمدى حساسية تركيا من تعاون بلاده الميداني مع وحدات حماية الشعب الكردية في سورية، وأقربَ لفكرة الحوار والتعاون من التهديد والعقوبات.
ويضاف لكل ما سبق التوجهاتُ العامة المتوقعة لـ»بايدن»، وفي مقدمتها استعادة ثقة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بها وتمتين حلف شمال الأطلسي وتعزيز دور المؤسسات، وكل ذلك يدفع باتجاه الحوار لا التصادم مع تركيا.
ملفات خلافية
بغض النظر عن اسم الرئيس، تبقى بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ملفات عالقة وخلافية، منها اثنان مزمنان وتقليديان وواحد ساخن حالياً.
ذلك أنه إضافة للسياسة الخارجية التركية في عمومها -التي يبدو أن واشطن غير راضية عنها- تعتب أنقرة عليها دعمها للمليشيات الانفصالية شمال شرق سورية متجاهلة خطرها على الأمن القومي التركي وتصنيفها في تركيا كمنظمات إرهابية، وهو الدعم المرشح أن يستمر ويتعمق ويتزايد مع الإدارة الديمقراطية الجديدة.
من جهة أخرى، ورغم مرور أربع سنوات ونصف سنة على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا التي تتهم الأخيرة الكيان الموازي أو جماعة «فتح الله كولن» بالتخطيط لها وتنفيذها، فإن الولايات المتحدة ما زالت حتى اللحظة لم تتعاون معها بأي درجة في هذا الملف، فما زالت تستضيف «كولن» على أراضيها مقدمة له كافة التسهيلات، دون أن تستجيب لمطالب تركيا بتسليمه أو التحقيق معه أو حتى الحد من نشاطه.
الملف الأكثر سخونة الآن هو صفقة «S400” الروسية التي تراها واشنطن خطراً على أسلحتها
أما الملف الأكثر سخونة وحضوراً اليوم على صعيد العلاقات التركية – الأمريكية، فهو صفقة «S400” الصاروخية الروسية التي أنجزتها تركيا، وإن لم تفعّلها بعدُ عملياً على أراضيها؛ إذ ترى واشنطن أنها تشكل خطراً على أسلحتها خصوصاً طائراتها المقاتلة، وتروّج للصناعات العسكرية الروسية، وكذلك تقرّب بين موسكو وأنقرة التي تعدُّ القوة العسكرية الثانية بـ”الناتو”، وما لذلك من تداعيات إستراتيجية على الحلف، ولذلك تهدد واشنطن أنقرة بإيقاع عقوبات عليها في إطار قانون “كاتسا” (قانون معاقبة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات)، وهو ما بدأت إرهاصاته في الأيام الأخيرة لرئاسة “ترمب”.
طبعاً، ثمة ملفات أخرى تتفق فيها أو تتقاطع المصالح التركية والأمريكية، وفي مقدمتها الملف الليبي والتطورات في القوقاز بدرجة ما، لكن فكرة العقوبات –وكيفية تجنبها- هي المسيطرة على النقاشات السياسية والإعلامية في كواليس أنقرة مع إدارة “بايدن”.
استعدادات تركية
ولتجنب العقوبات الأمريكية وتداعياتها على تركيا وخصوصاً اقتصادياً، بدأت الأخيرة خطوات عملية استعداداً لمتطلبات المرحلة المقبلة أو عهد «بايدن»؛ فإضافة لتكثيف الحديث عن إصلاحات قانونية وقضائية وديمقراطية في البلاد داخلياً على مدى الأشهر الأخيرة، ثمة خطوات ملموسة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية؛ إذ يغلب على الخطاب الرسمي التركي الهدوء، وتغليب الحوار والمصالح المشتركة، على عكس الخطاب الحاد الذي ميّز عام 2020م في العموم، مقروناً بخطوات عملية تخدم المعنى نفسه.
وقد شمل ذلك الولايات المتحدة التي أكدت التصريحات الرسمية التركية أهمية العلاقات معها، فضلاً عن رد الفعل التركي «المنضبط» على عقوباتها، سعياً لعدم بدء العلاقة مع إدارة «بايدن» بتوتر كبير، كما شملت الاتحاد الأوروبي الذي عادت تركيا لتؤكد، على لسان نائب وزير خارجيتها، رغبتها في عضويته الكاملة، وأنها –على لسان «أردوغان» نفسه– «لا ترى نفسها إلا في أوروبا، وتريد بناء مستقبلها معها»، وقد ترافق ذلك مع عودة اللقاءات التقنية لـ»فض النزاعات» مع اليونان تحت مظلة «الناتو»، وكذلك اللقاءات الاستكشافية معها لمحاولة إيجاد حل طويل المدى لأزمة شرق المتوسط.
كما لا ينبغي إغفال رسائل أنقرة الإيجابية المتعددة تجاه عدد من حلفاء واشنطن الإقليميين، وفي مقدمتهم السعودية ومصر، بما شمل لقاءات وحوارات قد تؤدي لتطوير العلاقات أو على أقل تقدير تخفيف حدة الخلاف معهم.
أخيراً، تعوّل تركيا على مساحة زمنية سيؤمنها لها انشغال «بايدن» في تشكيل إدارته وإعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات الأمريكية، وكذلك الأولويات الداخلية الأخرى، وفي مقدمتها جائحة «كورونا» والاقتصاد، فضلاً عن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية المتمثلة بالصين وروسيا.
وهي مساحة زمنية ترغب أنقرة في أن تساعدها على إطلاق حوار مع «بايدن» وإدارته قبل الاحتكاك معها بشكل مباشر في أي من الملفات الخلافية سالفة الذكر؛ حيث تراهن أنقرة على أن الحوار المباشر قد يساعد في تخفيف حدة الخلافات وبلورة حلول وسط لبعض المعضلات، وهو ما أجادته أنقرة كثيراً في السنوات الماضية، رغم علمها بأن المسائل الخلافية مع واشنطن أبعد ما تكون عن إمكانية الحل الكامل في المدى المنظور.