يعيش كثير من الناس اليوم فوق ظهر البسيطة وبأعلى الأرض ومنهم بعض المسلمين –للأسف- وهم جميعًا يتمنون وصول قطارات حياتهم ذات يوم حبذا لو كان بالغ القرب لمحطة مزركشة، حتى إنهم لا يجدون همًا واحدًا باقيًا لهم في الحياة الدنيا؛ بحيث تكون حياتهم هناءً وطيب معاش وإقامة دائمين مستمرين أبدًا؛ ولذلك تجد أحدهم يتبرم شاكيًا بل ذاهلًا يريد منك أن تصدق أنه لقي صباحًا أمرًا مؤسفًا لم يخطر له على بال ويريد إقناعك بأنه لا يخطر لك أنت على بال أيضًا؛ ولذلك وبناء عليه فقد “أُغلقَ اليوم كله عليه نفسيًا” أو “قفلت معه” -بحسب تعبير بعض الشباب- قاصدًا أنه شعر بأن سحابة نهاره وساعات المساء عاشهم بمزاج مكدر وعدم قدرة على مجرد التعامل مع أحداثهما للحدث البسيط “المقلق” الذي عاناه صباحًا.
ونظرًا للأمل القوي والشعور المتدفق في الشرايين والأوردة والمفاصل بل حوايا وحنايا الروح وأوصال النفوس بأن “أحدنا” يستحق من الحياة أفضل ما فيها؛ فهو لا يؤذي “متعمدًا” أحدًا ويتمنى الخير للجميع فيجب أن يقدم إليه الجميع ما يرضيه ويقنع به بل إنه ليتعجب من تصاريف ومجريات الأقدار التي لا ترضيه أو تعجبه أو حتى يقتنع بها ما أدخلت حزنًا مقيمًا أو عابرًا إلى نفسه.
وهذا لا ينفي أن في الناس والمسلمين مَنْ ابتلوا بما أهمهم وشاق أنفسهم وأتعبهم وأجهدهم وأضناهم وربما لم يفعل بعضهم من وجهة نظرهم ما يراه يناسب هذا المصير من مثل فقد عضو من أعضاء الجسد في حادث أو حتى الميلاد به وهو عليل؛ أو يُتم مبكر، أو فقد مال وفير، أو نزول مصيبة بأرض أحدهم لم تكن تخطر له على بال من وفاة زوج كانت زوجته الشابة ترجو أن تحيا وتعيش معه عمرًا طويلًا مديدًا؛ أو أن تعيش أمٌّ أو أبٌّ بعد فقد ابن في عمر الزهور يحملون ذكراه في أنفسهم آناء الليل وأطراف النهار وما استمرت أنفاس في صدورهم؛ فإذا ما أحببتَ التهوين عن أحدهم -وما أكثرهم للأسف- فقلتَ له أو لها من باب الدعابة:
– أما تنام أو تنامين؟
جاءك الرد في مرارة لا تنساها:
– لا ينام إلا خالي البال!
وفي الحالين إذ نتوقع من الحياة هناء وصفاء ونعيمًا دائمين أو إذا ما ابتلينا بما لم نكن نحسب أو نتمنى أو نتوقع أو نتخيل أن يحل بساحتنا يغيب عنا أن هذه الحياة اسمها من الأساس والبدء والوجود: الدنيا أو الأقل منزلة ومكانة وأن نقيضها وعكسها ومقابلها الدائم الذي لا تنقضي متعه ونعيمه وراحاته وتدفقات الرحمة به حتى لا يشكو أحدنا من أقل القليل من العناء ما يكون إلا في الآخرة الطويلة الممتدة التي لا نهاية لها أو انقضاء لعجائب استقرار تدفق خلوها من الأوجاع والأسقام والآلام والأمراض وعصي الأحداث الجسام حتى أن رب العزة ليصفها في محكم آياته وجليل تنزيله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت)، وفي ذلك يقول ابن كثير يرحمه الله عن الآخرة: إنها “الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد”، فيما الدنيا التي جاءت في مفتتح الآية ليست إلا حقيرة زائلة منقضية، “وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب”.
قضى الله تعالى قبل أن يوجد الوجود كله ويكون ألا تخلو الحياة الأولى القليلة المرتبة المتدنية الحقيرة مقارنة بالآخرة الدائمة المستقرة.. قضى الله ألا تخلو الحياة الأولى من الأوجاع والأسقام والمضار والمشكلات والأكدار ومستوجبات الأحزان سواء شئنا -بحسب الضعف البشري المخلوق معنا الذي يجعلنا نختلف عن الآخرين شئنا أم أبينا- فيختلف في النهاية تكويننا عنهم؛ فلا يفهمون عنا حينًا أو لا نفهم عنهم أحيانًا أخرى؛ أو تختلف مرادنا وأهدافنا من الحياة معهم، فنصطدم برغمنا أو إرادتنا معهم وبهم؛ مع وجود مسلمة عقلية أخرى بسيطة فلو أن كل منا أراد ونال لنفسه الخير الوفير فكيف يمكن للآخرين أن يعيشوا أو يتعايشوا معه وقد استغنى بما حصله وناله من متع الحياة عنهم بل لربما نازعنا جميعًا بعضنا بعضًا في المرادات والأشياء والأهداف حتى لا يبقى أحدنا للآخر شيئًا يتقوت منه أو حتى يجد نسمة هواء يتنسمها بعد أن يتنفسها؛ فمن نعيم وراحة البعض في الحياة الدنيا سلب البعض الآخر حياتهم لخلاف أو اختلاف؛ ولذلك يعالجنا الله جميعًا بالمنع قبل العطاء بما يصلح أحوالنا ويجعلنا نستطيع التعامل والحياة والاستمرار في عالم واحد يسعنا معًا!
أما الهموم والمشكلات والمعاناة والأنواء والمتاعب وأسباب الشقاق والشقاء فلا يخلو منها مخلوق ـ أيًا ما كان ونال من هذه الحياة منزلة أو قدرة أو كفاءة أو إمكانات ـ فإن الدنيا الأقل شأنًا ومكانة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة -بحسب الحديث الشريف- لم يرتح فيها نبي أو رسول حتى لو كان سيد الخلق وأحبهم إلى سيدهم وبارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، حتى أنه ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب ثم فقد الأم في السادسة في السن التي لا يعادل وجودها بين الأحياء سوى رحمة الله؛ ثم إنه كان قليل المال يرعى الغنم لم يلبث أن عاداه قومه وضيقوا عليه وحاولوا النيل منه، ومات له في سن الرضاعة الولد الذكر ثم الزوجة المحبة الوفية ومن بعدها الجد الذي كان يمنع أعداءه عنه والعم القوي الذي دفع القساة المنكرين عنه، ثم ماتت الابنة الكبرى والثانية والتي تليها والتي تليها في حياته صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته في غزوة “أُحد” وسال دمه وكان حريصًا على هداية قومه حتى إن تفجر الدم من قدميه ورماه صغار الكافرين بالحصى والطوب في طرقات الطائف؛ ولو كان أحد من البشر يسلم من كل ذلك ويبرأ منه لكان محمد صلى الله عليه وسلم فكان لا يغضب إلا إذا انتهكت حدود الله تعالى!