ضجت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء منذ أيام بنبأ انقلاب الجيش في ميانمار، واعتقاله زعيمة البلاد أونغ سان سوتشي والزج بها في الاحتجاز، واعتقال قيادات الحزب الحاكم “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”، مدعيًا بأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة مزورة، وأن الجيش جاء لتصحيح المسار، واعدًا بتسليم السلطة للحزب الفائز في انتخابات حرة ونزيهة.
في الحقيقة، لم يكن الأمر غريبًا ولا مستبعدًا على الجيش بالنظر إلى الوضع السياسي القائم في البلاد منذ عقود وسيطرته التامة على مفاصل الدولة وتحكمه بملفاتها المهمة، ولم تكن الحكومة الديمقراطية الوليدة -التي تعتبر أول حكومة ديمقراطية مدنية- سوى لاعب صغير أمام الجيش صاحب الهيمنة والقوة والنفوذ والسلطة الحقيقية.
لمحة تاريخية
دعونا سويًا نرجع بالذاكرة إلى تاريخ نشأة البلاد لنرصد تصاعد قوة الجيش ووصوله إلى السلطة والتشبث بها.
في عام 1948م حصلت ميانمار أو بورما كما كانت تسمى حينها على استقلالها من بريطانيا بفضل مفاوضات أجراها أون سان، والد سوتشي المعتقلة الآن، ثم دخلت البلاد في دوامة من الاضطرابات والعنف، ليجد الجيش الفرصة للتدخل في السلطة والاستيلاء على مقاليد الحكم.
في عام 1958م شكّل رئيس أركان الجيش الجنرال ني وين حكومة مؤقتة، أصبحت فيما بعد أول إدارة عسكرية في ميانمار، لكن ذلك كان لفترة وجيزة عاد بعدها الحكم لرئيس مدني، ثم بعد عامين فقط انقلب الجيش مرة أخرى وأدخل البلد في نفق الحكم العسكري لمدة 49 عاماً، من عام 1962 حتى عام 2011.
في منتصف هذه الفترة تقريبًا، وتحديدًا في عام 1990، بدا للجيش أن يلمّع نفسه بتنظيم أول انتخابات ديمقراطية بمشاركة أحزاب المعارضة، لكنه فوجئ بفوز حزب أونغ سان سوتشي “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”، فلم تطق نفسه أن تعلن الخسارة، وأن يعود للثكنات العسكرية، ولم يجد حلًا سوى التشكيك في نزاهة الانتخابات والانقلاب عليها والاستمرار على السلطة.
دوافع الجيش للانقلاب
في كل مرة يخلق الجيش مبررًا لنفسه ليظل على هرم الدولة ورأسها ويمسك بزمام كل الأمور، بدءًا من تعرض البلاد لمؤامرات خارجية، أو وجود قلاقل واضطرابات داخلية تستوجب فرض حالة الطوارئ، والاتهام بتزوير الانتخابات وعدم صلاحية الأحزاب المعارضة للحكم لأنها تتيح الفرصة للأعداء بالنيل من كرامة البلاد أو من استقلاليتها.
لا أحد في نظر الجيش يخشى على مصالح البلاد مثلما يفعل هو، ولا أحد أقدر على حماية البلاد من الأعداء الخارجيين غيره؛ والأعداء هنا هم كل العالم الخارجي من الأمم المتحدة والهيئات الأممية والدول العظمى في المنطقة، ما عدا الحلفاء مثل الصين وبعض دول الجوار.
منذ تسلم الجيش السلطة دأب على التغلغل في مفاصل الدولة وزاوج بين السياسة والاقتصاد والحكم وخلق دولة عميقة لا يمكن هزيمتها بسهولة عبر إغداق المال والجاه لكافة الأطياف، بل راح يغازل المؤسسة الدينية ليفوز بودها ويجعلها في صفه.
يسيطر الجيش على 25% من مقاعد البرلمان، ويدير وزارات صلبة كوزارة الإعلام والدفاع والحدود، ويمتلك شركات استثمارية كبرى متعاقدة مع الصين وغيرها، ويدير المشهد الديني عبر رجال الدين البوذيين الذين يغدقهم بالمال والسلطة والحماية للوصول إلى قاعدة الجماهير البسيطة وإفهامهم أن الجيش هو الخط الدفاعي الأول عن البلاد وعن الدين الذي يتعرض للغزو من أديان أخرى.
أين الروهنجيا من المعادلة؟
معاناة الروهنجيا الطويلة والممتدة والمستمرة سببها الجيش وسياساته في دعم الكراهية والمتطرفين وتبني العنف ضدهم، ورغم وصول أول سلطة مدنية إلى كرسي الرئاسة لم يغير من الأمر شيئًا، بل إن أكبر هجرة جماعية في تاريخ الروهنجيا كان في عهد هذه السلطة في عام 2016 و2017م، وإن كان المتسبب فيها هو الجيش لكن ذلك يعطيك تصورًا عن ضعف هذه الحكومة وقوة الجيش.
إذن، فإن انقلاب الجيش أو استمرار الحزب المعارض في السلطة لا يشكل فارقًا كبيرًا بالنسبة للروهنجيا ومأساتهم؛ فهم عاصروا الظلم والقهر في كلا الفترتين، بل إن أحد أهم الأسباب الخفية لانقلاب الجيش هو أزمة الروهنجيا التي خلقت له صداعًا كبيرًا، والسبب في ذلك هو عدم رضاه عن سوتشي وطريقة إدارتها للأزمة بإشراك المؤسسات الأممية ومنحها الفرصة للتدخل في الشؤون الداخلية بحسب ما يقول.
أين العالم؟
الأمم المتحدة ومجلس الأمن هي مؤسسات ليست سوى إلهاء للشعوب الضعيفة ومحاولة لتزيين عالم فاسد أخلاقيًا وتغطية لمصالح القوى العظمى وجزء من أساليبها ووسائلها للسيطرة على مجريات الأمور في العالم وتفسير واقعي للإمبريالية.
مجلس الأمن على سبيل المثال يعقد منذ سنوات جلسات معلنة وسرية للتباحث في شأن ميانمار وملفاتها، لكنه لا يخرج إلا بقليل من التنديد وكثير من الفشل، لأن المجلس عبارة عن معسكرين، أحدهما فيه روسيا والصين الحليفتان لميانمار، والآخر فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما، وكلهم يتعاركون على مصالحهم في المنطقة باستخدام حق “الفيتو”.
الصين هي المستثمر الأول في ميانمار وتستخدم أراضيها وتحديدًا ولاية آراكان للوصول إلى المياه العميقة دون الحاجة للمرور من مضيق ملقا الذي تفرض فيه أمريكا سيطرتها؛ وبالتالي وقوفها إلى جانب ميانمار في مجلس الأمن خيار إستراتيجي، أما روسيا فهي تضيق الخناق على أمريكا لا أكثر لمنعها من التمدد في شرق آسيا.
أما باقي المؤسسات الأممية فهي لا تملك سلطة تنفيذية على ميانمار، والأخيرة لا تعترف أساسًا بهذه المؤسسات ولا تحترمها، وبالتالي هي حالة من الدوران العدمي بلا فائدة.