في 14 فبراير الماضي، أعلن وزير الدفاع التركي «خلوصي أكار» انتهاء عملية «مخلب النسر 2» التي بدأتها القوات التركية في شمال العراق قبل ذلك بأربعة أيام، لكنَّ الوزير قال: إن اليوم الأخير للعملية شهد مقتل 12 مواطناً تركياً -ومعهم مواطن عراقي وفق وسائل الإعلام التركية- كانت منظمة حزب العمال الكردستاني تحتجزهم كرهائن منذ سنوات، حين اقتربت منهم قوات خاصة في المغارة التي كانوا محتجزين داخلها.
تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978م، وبدأ عملياته العسكرية ضد تركيا في عام 1984م؛ بهدف الاستقلال عنها وإنشاء دولة للأكراد في المنطقة، وعلى مدى ما يقرب من أربعة عقود كلفت مواجهة العمال الكردستاني تركيا نحو 30 ألف ضحية من مواطنيها، فضلاً عن الكلفة العسكرية والأمنية، والخسائر الاقتصادية التي قدرها البعض بحوالي 500 مليار دولار؛ ليبقى هذا الملف خاصرة رخوة لها تحاول أطراف عديدة الضغط عليها من خلالها.
وقد وجد «الكردستاني» بيئة خصبة بعد حرب الخليج الثانية وضعف سيطرة الحكومة العراقية على الشمال، ثم لاحقاً إثر استقرار إقليم كردستان العراق في الشمال بعد غزو العراق؛ حيث اتخذ من جبال قنديل في الشمال معقلاً له، للتحشيد والتدريب والتخطيط وشن العمليات العسكرية ضد تركيا.
ولذلك، كان أحد أهم أهداف أنقرة في عملية مكافحة المنظمة الإرهابية (وفق تصنيف تركيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها من الأطراف) العمل بشكل استباقي على منع شن العمليات انطلاقاً من قنديل؛ فبدأت منذ تسعينيات القرن الماضي جهداً بهذا الاتجاه، بعقد اتفاقات مع بغداد تتيح لها ملاحقة العناصر المسلحة في داخل الأراضي العراقية، باعتبار أن قوات الأخيرة غير قادرة على منع العمليات انطلاقاً من أراضيها.
عمليات “المخلب”
مع الوقت، تطورت إستراتيجية تركيا في مواجهة «الكردستاني» وكذلك إمكاناتها، لا سيما بعد أن بدأ (الكردستاني) يؤسس لنفسه قاعدة ثانية في عمق الأراضي العراقية، وتحديداً في سنجار ابتداءً من عام 2015م، وقد شنت تركيا خلال السنوات القليلة الأخيرة سلسلة من العمليات المتتالية التي حملت اسم «المخلب»، في عمق الأراضي العراقية وليس فقط على مقربة من الحدود أو في جبال قنديل.
في مايو 2019م، أعلنت القوات المسلحة التركية عن إطلاق عملية «المخلب»، التي استخدم فيها القصف الجوي بشكل مكثف تمهيداً لإنزال قوات خاصة إلى الأرض، وقد تبع تلك العملية عمليات «المخلب 2» في يوليو 2019م، و»المخلب 3» في أغسطس من العام نفسه.
ثم جاءت عملية «مخلب النسر» في يونيو 2020م بالتنسيق بين جهاز الاستخبارات والقوات المسلحة التركية، حيث قصفت مقاتلات «F16” التركية عشرات المواقع للمنظمة الإرهابية وفق بيانات وزارة الدفاع، وبعدها بأيام فقط أعلنت القوات المسلحة التركية عن عملية “مخلب النمر” التي -كما يوحي اسمها- لم تكتفِ بالقصف الجوي، وإنما شاركت قوات خاصة على الأرض في “تحييد” عناصر “الكردستاني”، وهو مصطلح يعني إخراج المسلح من المواجهة بما يشمل القتل والإصابة والاعتقال.
في العاشر من فبراير الماضي، وبعد سلسلة زيارات من وزير الدفاع ورئيس الأركان التركيين إلى كل من بغداد وأربيل ولقاءاتهما مع مختلف المستويات القيادية هناك، أعلنت وزارة الدفاع التركية عن عملية “مخلب النسر2”، وفي حين كانت التوقعات تسير باتجاه عملية موسعة في سنجار، ركزت العملية على “غارا” وهي منطقة عبور لمقاتلي الكردستاني إلى الحدود التركية.
وفق بيان وزارة الدفاع التركية، “بدأت العملية بقصف أكثر من 50 هدفاً بشكل متزامن من قبل 41 طائرة مقاتلة تركية، في محاولة للسيطرة على منطقة بعرض 75 كلم وعمق 25 كلم، وقد أسفرت المواجهة الأولى عن استشهاد 3 جنود وجرح 3 آخرين” كتعبير عن مدى العملية وضراوتها، انتهت العملية بعد أربعة أيام، وأسفرت عن تحييد 53 مسلحاً من المنظمة، لكن إحدى المغارات كانت “سجناً” تستخدمه المنظمة لاحتجاز 12 تركياً ومواطناً عراقياً منذ سنوات؛ حيث سارع مسلحوها لاغتيالهم مع اقتراب القوات التركية من المغارة، وفق شهادة عنصرين تم اعتقالهما خلال العملية.
مجرد مقدمة
بهذا المعنى، كانت عملية «مخلب النسر2» محطة ضمن سلسلة عمليات متواصلة تهدف لضرب مواقع ومعاقل العمال الكردستاني داخل العراق، وتمضي بشكل متدرج في عمق الأراضي العراقية، لقطع التواصل بين قنديل وسنجار أولاً، ثم للمواصلة باتجاه سنجار ثانياً.
وقد أدت عملية اغتيال الرهائن الأتراك إلى غضب شديد في تركيا شعبياً ورسمياً؛ حيث زار وزيرا الدفاع والداخلية رئيسَيْ حزبَيْ الشعب الجمهوري والجيد المعارضين لتقديم معلومات تفصيلية عن العملية، كما قدَّما تلخيصاً لأعضاء البرلمان، وكانت معظم كلمات الأحزاب الممثلة في البرلمان مؤيدة لسعي الحكومة للرد على اغتيال الرهائن.
هذه الخطوات الاستثنائية (التواصل مع المعارضة ووضع البرلمان في الصورة) إضافة للغضب الشعبي الكبير والتصريحات الرسمية بما تحمله من تلميحات تنبئ بأن أنقرة لن تتوقف عند هذا الحد، وإنما هي مصممة على الانتقال لمرحلة جديدة في مكافحة العمال الكردستاني في العراق.
والمرحلة المقبلة ستكون غالباً عملية عسكرية موسعة ضد المنظمة في منطقة سنجار، التي باتت المعقل الثاني لها داخل العراق بعد جبال قنديل في الشمال، لا شك أن عملية من هذا النوع وبهذا العمق في الأراضي العراقية دونها تحديات وعقبات كثيرة، بعضها ميداني – لوجستي، وبعضها الآخر سياسي متعلق بمواقف كل من بغداد وأربيل فضلاً عن قوى إقليمية وعالمية مثل إيران والولايات المتحدة وروسيا.
جزء من الإعداد لهذه العملية كان سلسلة العمليات السابقة التي منحت القوات التركية أفضلية وتجهيزات ومعلومات وكذلك خبرة بخصوص المنطقة، والجزء الآخر هو التلويح المستمر بإطلاق عملية قريبة «بين ليلة وضحاها ودون سابق إنذار» كما يردد الرئيس التركي مراراً، وكذلك التواصل الدبلوماسي والعسكري بين تركيا من جهة، والحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق من جهة أخرى.
ما زالت أنقرة تحث بغداد –تحديداً- على تولي إخراج «الكردستاني» من سنجار بنفسها، أو على الأقل بعملية مشتركة تركية عراقية، وتراهن على تعاون أو على الأقل تفهّم أربيل لها؛ حيث إن الأخيرة على خلاف تاريخي مع العمال الكردستاني، وبالتالي فإن تحجيمه وهزيمته يشكلان مصلحة لها.
أما إن عجزت بغداد عن القيام بالعملية بنفسها أو ترددت بالتعاون مع أنقرة بخصوصها -تقول تركيا- فإن ذلك سيكون مسوغاً لها لتنفيذ العملية بمفردها، انطلاقاً من حق الدفاع عن النفس ومبدأ مكافحة الإرهاب، وستكون عملية اغتيال الرهائن دافعاً تركياً قوياً نحو العملية، وقد تخفف من مستوى الضغوط المتوقعة عليها من مختلف الأطراف.
رسمياً وعلنياً سترفض بغداد عملية من هذا النوع، لكن الزيارات المتبادلة والتفاهمات بين الطرفين توحي بموافقة ضمنية على العملية، لا سيما أن إحدى عمليات «المخلب» السابقة كانت أعلنت في نفس يوم زيارة رئيس الوزراء العراقي لأنقرة، ما عُدَّ إشارة واضحة على أن بغداد كانت في الصورة، وأعطت موافقتها الضمنية على العملية، وأنها مطمئنة إلى أن العملية تستهدف المنظمة الإرهابية حصراً، ولا تشكل إشارة على طمع تركيا بأراضيها.
أما الولايات المتحدة، فإن اعتراضها على العملية التركية في العراق لن يكون بمستوى اعتراضاتها على العمليات في سورية؛ حيث إن المستهدف هنا هو «الكردستاني» مباشرة وليس حليفتها «قوات سورية الديمقراطية»، كما أنه لا توجد قوات أمريكية في المنطقة؛ ما يعني أن الاعتراض الأمريكي سيكون أقل وطأة وكذلك قدرتها على منع العملية أو تعقيدها.
وبالتالي، في الخلاصة، لا يبدو أن هناك مانعاً حقيقياً أمام العملية التي تنوي تركيا تنفيذها، وإن كان المتوقع أن تكون عملية أصعب وأكثر كلفة وأطول زمناً، يبقى فقط أن قرار إطلاقها سيرتبط بمدى استعداد تركيا لها، والقناعة بأن فرص نجاحها كبيرة من خلال خطوات الإعداد السابقة عليها.
بكلمات أخرى، فالسؤال المطروح اليوم في أنقرة بخصوص عملية سنجار ليس «هل؟» وإنما هو: «متى وكيف؟» ووفق أي ظروف؟