يتهيأ العالم لنظام جديد، بصعود قوى جديدة وهبوط أخرى، ويبقى العالم الإسلامي يتكبد خسائر عدم تغيير رؤيته الإستراتيجية؛ فهذه القارة السمراء، قارة الإسلام كما قالوا، يظل العالم الإسلامي ينأى عنها، ولا ينظر إليها بعين الشريك الذي يمكن أن يُغيّر واقعه، وعلى النقيض؛ تغلغلت القوى الاستعمارية الغربية داخل أفريقيا منذ عقود، تستنزف خيراتها، وتستفيد على كافة الأوجه السياسية والإستراتيجية والاقتصادية، وتستمر في هدم ثقافة وهوية الإنسان الأفريقي، فماذا خسر العالم الإسلامي بسبب نظرته لأفريقيا؟ وكيف استنزفت القوى الغربية أفريقيا في ظل غياب القوى الإسلامية؟ أسئلة نطرحها في هذا التحقيق.
في حين تمثل أفريقيا السمراء قارة الثروات المادية والبشرية المدفونة، ومهداً لحضارات عديدة، وتضم أغلبية مسلمة، فإن العالم الإسلامي ينظر إليها بعين الشفقة والإهمال، وحتى في أثناء الاهتمام الدولي بالقارة وتوَجُّه الأنظار إليها، يظل العالم الإسلامي والعربي يتوجهون إلى أفريقيا بنظرة الجمعيات الخيرية.. لماذا؟!
ترجع هذه النظرة لأسباب عديدة؛ حيث يقول د. محمد العادل، خبير العلاقات الدولية بتركيا، لـ «المجتمع»: إن العالم العربي وتركيا ومنطقة إندونيسيا وماليزيا لا يعرفون أفريقيا، وبسبب جهلنا لأفريقيا وللثقافة الأفريقية واللغات الأفريقية، وجهلنا لطبيعة الحياة والتراث الأفريقي، لم نستطع التواصل مع الشعوب الأفريقية إلا عبر وسطاء، وأكبر خطأ قام به العرب والمسلمون هو التواصل مع أشقائنا في أفريقيا عبر أدوات تواصل غربية.
وأضاف العادل أننا نرى أفريقيا بعيون غربية وبتوجيه ذهني غربي أوروبي أو أمريكي، وهذا نراه واضحاً في رسم السياسات العامة ووضع الأدوات الدبلوماسية، إضافة إلى الاعتماد على الدراسات الاقتصادية التي تقوم بها دوائر غربية، بسبب عدم وجود دراسات متخصصة في الشأن الأفريقي.
في أعقاب مؤتمر مدريد 1991م لمفاوضات السلام بين العرب و»الإسرائيليين»، تمت ممارسة نوع من أنواع التخلي العربي عن الأفارقة؛ بسبب التقدير العربي الخاطئ بأن الصراع العربي-»الإسرائيلي» في طريقه للحل، وبالتالي فإن الحاجة إلى الأفارقة كورقة ضد «إسرائيل» وككتلة تصويتية في المحافل الدولية انتفت، وفي مقابل ذلك؛ تم إضعاف وتفكيك عناصر القوة الشاملة للعرب والمسلمين عن طريق أفريقيا، وتكوين طوق محيط بالعرب تستطيع «إسرائيل» أن تنطلق منه لإنجاح أهدافها.
ويرى د. العادل أن دول المغرب العربي، ومصر تحديداً، باعتبارها تتواجد في القارة الأفريقية، هي الأولى والأقرب للثقافة الأفريقية، والأقرب لوجستياً للتعاون مع دول أفريقيا السمراء، صحيح هناك اهتمام، لكنه سطحي لا يرقى لحمل رؤية إستراتيجية، ولا يرقى حتى لمستوى التعاون التجاري والاقتصادي، رغم سهولة التنقل والحركة.
وأضاف العادل أن تركيا قبل وصول حكومة العدالة والتنمية حتى عام 2002م؛ لم نسمع بمركز دراسات للشؤون الأفريقية أو قسم للدراسات الأفريقية في جامعة تركية، معنى ذلك أن تركيا وهي بلد إسلامي كبير ولديه مصالح في أفريقيا، بدأ يكتشف أفريقيا فقط قبل 18 عاماً، والآن فقط بدأت تتوجه الدولة التركية والقطاع الخاص والمنظمات المدنية والمهنية إلى تأسيس دوائر تفكير ومراكز دراسات متخصصة في الشأن الأفريقي، فهذا بالنسبة لتركيا التي انتبهت لهذا الموضوع حديثاً، معنى ذلك أن كثيراً من الدول الإسلامية والعربية لم تبدأ أصلاً هذه الخطوة.
العالم الإسلامي خسر الكثير بتأخر شراكته مع أفريقيا بالنظر لمخزونها الضخم من الثروات الطبيعية والمنتجات الزراعية
ماذا خسر العالم الإسلامي؟
هناك حقائق عن أفريقيا تبدو غائبة عن إدراك العالم الإسلامي؛ فأفريقيا مكان لتحقيق الأرباح، فضلاً عن كونها الفضاء الإستراتيجي للدول الإسلامية، فالتقديرات الجديدة للقارة تقول: إنها أضحت واحدة من أكثر وأسرع مناطق العالم نمواً؛ فقد زاد الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا إلى 3.4 تريليون دولار في عام 2019م، ومن المتوقع أن يلامس حجم الـ29 تريليون دولار بحلول عام 2050م.
في هذا الصدد، يصرح د. العادل، لـ»المجتمع»، أن العالم الإسلامي خسر الكثير بتأخر شراكته مع أفريقيا، بالنظر إلى مخزون أفريقيا الضخم من ثرواتها الطبيعية ومنتجاتها الزراعية، فهذه المنتجات الأفريقية قد تصل إلى الأسواق العربية والإسلامية عموماً، لكنها تصل عبر وسطاء غربيين معظمهم من الفرنسيين والإيطاليين والإسبان وغيرهم؛ فما الذي كان يمنع أن تقيم الدول الإسلامية علاقات تجارية مباشرة وتشتري المنتجات التي تحتاجها بدون وسطاء؟! وبالتالي خسر بلدان العالم الإسلامي هذه الثروة من المعادن والمواد الخام التي كان يمكن أن تساهم في دعم حركة التصنيع في البلاد العربية والإسلامية.
وأشار العادل إلى أن التوجه نحو الاستثمار في أفريقيا من طرف العالم الإسلامي لم يكن مدروساً، وبالتالي معظم التواجد الاقتصادي الإسلامي في أفريقيا هي مشاريع خدمية، مثل المتاجر أو المطاعم أو مراكز بيع، لكنها لم تتوجه إلى استثمارات ذات طبيعة إستراتيجية، مثل إقامة مصانع أو مزارع ضخمة، أو الاستثمار الذكي في مشاريع التعليم والتدريب لليد العاملة الأفريقية، أو المشاريع الذكية في الإعلام لصناعة صداقات و»لوبيات» في أفريقيا، بحيث تكون حليفة للمصالح الإسلامية، وتخدم القضايا العربية والإسلامية، وللتقريب بين الشعوب، لكن للأسف لم تتواجد إرادة سياسية للحضور في أفريقيا بقوة، وأن نكون شركاء حقيقيين.
معظم التواجد الاقتصادي الإسلامي بأفريقيا مشاريع خدمية ولم تتوجه إلى استثمارات ذات طبيعة إستراتيجية
على المستوى الاقتصادي والإستراتيجي، تأتي خسارة العالم الإسلامي بسبب غياب الإرادة السياسية، وغياب الرؤية الإستراتيجية، وعدم تشجيع الدولة لرجال الأعمال والمستثمرين بأن يتوجهوا إلى المشاريع ذات الطبيعة الإستراتيجية في أفريقيا.
نجاحات ناقصة
أما على الجانب الثقافي والدعوي فهناك بعض النجاحات، إلا أنها غير متكاملة، فيقول الباحث محمد الزواوي، المشرف على موقع «قراءات أفريقية» باللغة الإنجليزية، لـ»المجتمع»: إن العالم الإسلامي أحرز بعض النجاحات في القارة الأفريقية فيما يتعلق بإنشاء الكتاتيب، وإنشاء المراكز الإسلامية والدعوية والخيرية، وأصبح للعالم الإسلامي قوة ناعمة في أفريقيا، تمثلها بعض الدول الإسلامية مثل السعودية وقطر والكويت، فهذه الدول الغنية تحاول بقدر الإمكان تعويض النقص الذي يتواجد في العالم الإسلامي، بقوتها الناعمة.
ومن الجدير بالذكر أنه بجانب ضعف إمكانات المؤسسات الدعوية الإسلامية، مقارنة بالمؤسسات التنصيرية، تعاني الدعوة الإسلامية من ظاهرة تشتت الجهود وعدم التنسيق بينها؛ الأمر الذي يُضعف تلك الجهود ويقلل من فاعليتها، فعلى الرغم من وجود مؤسسات إسلامية ذات تراث كبير وعريق مثل الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة، والقيروان، وكذا مؤسسات إسلامية فاعلة مثل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ومنظمة الدعوة الإسلامية، ولجنة مسلمي أفريقيا الكويتية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي بالسعودية، علاوة على جهود منظمة المؤتمر الإسلامي والحركات الصوفية والجماعات والمؤسسات الإسلامية المحلية داخل كل دولة، فإن الواقع يشير إلى أن كثيراً من الجهود الإسلامية تعاني من عدم الدقة في التخطيط، وعدم التنسيق على نحو يؤدي إلى إهدار الجهود والإمكانات.
وأضاف الزواوي أن العالم الإسلامي في تراجع حتى الآن، إذا نظرنا إلى الدوائر التي تحمل صفة مناطق إقليمية، سنجد أن العالم الإسلامي قاصر، ولا يمثله سوى «منظمة التعاون الإسلامي»، وهي منظمة غير فاعلة بصورة كبيرة، وإن كانت خطوة مهمة لتعزيز العمل الإسلامي، لكن لا نستطيع القول: إن هناك عالَماً إسلامياً يعمل بصفة متماسكة، حتى إن دائرة العالم العربي أيضاً لا تعمل بتماسك.
– العالم الغربي ينظر لأفريقيا باعتبارها مخزوناً للمواد الخام وبها مناطق ذات أهمية إستراتيجية كالقرن الإفريقي
استنزاف الخيرات
تتميز البيئة السياسية والاقتصادية في أفريقيا في العقد الأخير بكونها بيئة تنافسية بين عدة أقطاب ولاعبين دوليين، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين والبرازيل والهند، وهؤلاء جميعاً يتسم أداؤهم بالحيوية والإنجاز مقارنة بالأداء العربي والإسلامي.
يقول الزواوي، لـ»المجتمع»: إن العالم الغربي ينظر للقارة الأفريقية باعتبارها مخزوناً للمواد الخام، والكنوز المختلفة من المعادن وغيرها، وكذلك ينظر إليها باعتبارها تحمل مناطق بها أهمية إستراتيجية؛ مثل القرن الأفريقي، ومنطقة الساحل التي تتمركز فيها القوات الأمريكية (أفريكوم)، وبالتالي فإن أفريقيا تعتبر مهمة جداً بالنسبة للعالم الغربي، وطالما استغل العالم الغربي ثروات أفريقيا، سواء الماس أو الذهب أو النفط والغاز، واليورانيوم الذي يعد مهماً بالنسبة لفرنسا التي تعتمد على المفاعلات النووية.
وأضاف الزواوي أنه ما من شك أن العالم الغربي استفاد كثيراً من أفريقيا، سواء باستنزاف المواد الخام، أو اليد العاملة التي كانت تصدَّر للغرب كعبيد في البداية، والآن هناك الكثير من الأفارقة المهاجرين يعملون في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية، ويستخدم الغرب العمالة الأفريقية لأنها رخيصة، ويتم استعبادهم وتسخيرهم في الوظائف الدنيا في المجتمع.
تبدو خرائط اللاعبين في أفريقيا منقسمة بين فريقين؛ الأول: الفريق التقليدي القائد للنظام العالمي منذ منتصف القرن الماضي، ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، والثاني: اللاعبون الجدد الصاعدون نحو أدوار جديدة في النظام العالمي الراهن وأبرزهم الصين، وعلى مسافة منها تقع كل من تركيا وإيران.
فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، أعلنت القارة الأفريقية كمنطقة إستراتيجية للولايات المتحدة اعتباراً من عام 2002م، وطبقاً لذلك تم تكوين القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم) عام 2006م.
وفيما يتعلق بالصين، فقد حقق التعاون التجاري بين الصين ودول أفريقيا نمواً متسارعاً، وإنجازات ملحوظة؛ فقد وصل حجم التجارة بين الصين ودول أفريقيا إلى 110.8 مليار دولار، وشملت المشروعات الاستثمارية الصينية 49 دولة أفريقية.
وفيما يخص إيران، فإنها تحاول كسر الحصار الغربي المفروض عليها من خلال اكتساب مناطق نفوذ جديدة في أفريقيا؛ وذلك عبر مدخلين؛ اقتصادي وعسكري، في مناطق متفرقة؛ ففي العاصمة السنغالية داكار يوجد مصنع «خضرو» للسيارات الإيرانية، كما وعدت إيران الحكومة السنغالية ببناء مصفاة للنفط ومصنع للكيماويات وآخر للجرارات الزراعية، وتحتفظ إيران بعلاقات وثيقة مع كل من موريتانيا وغامبيا ونيجيريا.
القوى الاستعمارية استطاعت صناعة نخب مرتبطة بالثقافة الغربية عبر السياسات التعليمية والبعثات التنصيرية
استعباد وطمس الهوية
قامت القوى الاستعمارية عبر مراحل زمنية طويلة بالتخلص من التراث الحضاري الأفريقي، وذلك عبر أساليب وأدوات متعددة، يمكن أن نميزها في مستويين:
الأول: وهو المستوى الرسمي، حيث يبرز دور القوى الاستعمارية السابقة؛ فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
الثاني: وهو المستوى غير الرسمي، وفيه دور المنظمات والجمعيات غير الحكومية، التي تقوم بدور رئيس في عمليات الإحصاء الثقافي للمجتمعات الأفريقية، وتغيير طرائق حياتها، ومن أمثله ذلك جمعيات التنصير المختلفة، ومجلس الكنائس العالمي.
وتتبدى علاقة القوى الاستعمارية بهدم الإنسان الأفريقي في العديد من الملامح والممارسات، فعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي، استطاعت القوى الاستعمارية صناعة نخب ثقافية واجتماعية مرتبطة بالثقافة الغربية عبر السياسات التعليمية والبعثات التنصيرية؛ الأمر الذي أسفر عن ازدواجية ثقافية في معظم الدول الأفريقية، ما بين نخب حاملة للثقافة الغربية وعلومها، وهي نخب علمانية في معظمها، وجماهير متمسكة بالثقافة التقليدية مع شعور بالنقص لافتقارها للمهارات والخبرات المتوافرة لدى المتغربين من أبناء جلدتهم.
وعلى الصعيد الاقتصادي، رسخت القوى الاستعمارية علاقات التبعية الاقتصادية بمستعمراتها السابقة، عبر مجموعة من الممارسات، أبرزها ربط البنية الأساسية وشبكة المواصلات والاتصالات بالدولة المستعمرة، ومستلزمات الإنتاج الزراعي، والصناعات الأولية التي تقوم الدولة التابعة بتصديرها إلى الدولة الأم، فضلاً عن ارتباط عملات الكثير من الدول الأفريقية بعملة الدولة المستعمرة؛ الأمر الذي جعل تلك الاقتصادات رهن إرادة الدول الصناعية الكبرى المستوردة لتلك السلع، في ظل علاقة شبه احتكارية.
وعلى الصعيد السياسي، وفي ضوء الواقع الاقتصادي الاجتماعي سالف الذكر، عمدت القوى الاستعمارية إلى تسليم السلطة عند رحيلها للجماعات الموالية لها، خاصة في الحالات التي تم فيها الاستقلال بغير كفاح مسلح، ويفسر ذلك عدم استناد العديد من دساتير الدول الأفريقية وقوانينها إلى المبادئ الإسلامية، والأكثر من ذلك قبول دول ذات أغلبية إسلامية -كالسنغال وكوت ديفوار وسيراليون- حكم رؤساء مسيحيين تعاونهم نخب تلقت تعليمها على يد الإرساليات المسيحية، في ظل دعم القوى الغربية لهذا التوجه.
وأخيراً وليس آخراً، فالعالم الإسلامي يحتاج لأفريقيا، وأفريقيا في حاجة للقوى الإسلامية؛ أن تأتي لتصبح شريكاً في القارة الأفريقية بمبادئ وقيم إسلامية لإحياء الإنسان الأفريقي الذي طمسه الاستعمار، شراكة تحمل تنمية شاملة لأفريقيا وقوة اقتصادية للدول الإسلامية.
كيف ذلك؟ وكيف تعتبر أفريقيا تربة خصبة لاستقبال دول العالم الإسلامي؟ وما خطوات تقارب العالم الإسلامي بالقارة الأفريقية بشكل عملي؟
أسئلة نطرحها في الجزء الثاني من التحقيق قريباً إن شاء الله تعالى.