في سياق الحديث عن القدس وجرائم الاحتلال فيها ضد إخواننا الفلسطينيين، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الجهاد والتصدي لهذا الاحتلال الغاشم، والذود عن شرف الأمة كلها، كان لنا هذا الحوار مع د. طارق الطواري، الأستاذ بكلية الشريعة الإسلامية في جامعة الكويت؛ حيث تطرقنا لبعض الشبهات التي تدور حول جهاد الفلسطينيين وعلاقاتهم الخارجية من وجهة نظر شرعية.
نشرُف باللقاء معكم د. طارق، حياكم الله في «المجتمع»، وأهلاً وسهلاً بكم ابتداء.
– بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين.
أتشرف أن أكون مع إخواني في مجلة “المجتمع”، فهي غنية عن التعريف، وتاريخها طويل في مناصرة قضايا المسلمين، سواء كان في المشرق أو في المغرب، مثل قضايا المسلمين في الصين (الإيغور)، وكشمير، وفي بورما، وفي الفلبين، وقضية فلسطين، وقضية سورية.
وللأمانة، “المجتمع” كانت وما زالت وستظل منارة إن شاء الله ناطقة باسم الضعفاء والمظلومين، وتوصل صوتهم إلى العالم، وهي محلل سياسي جيد، واعٍ، يعطي الإنسان فكراً مستنيراً ووسطياً، لذا أرحب بكل الإخوة في “المجتمع”؛ المشاهدين والقارئين والسامعين.
تعقيباً على الحرب الشرسة التي قادها اليهود على الفلسطينيين وعلى المسجد الأقصى المبارك، وما قامت به فصائل المقاومة من رد عليهم، نجد أن هناك تشويشاً تقوده بعض القنوات العربية، وبعض المغردين والكُتَّاب بأن الفلسطينيين لا يملكون إلا صواريخ صغيرة ليست ذات فعالية، واليهود يملكون قوة جوية وأرضية وبحرية رهيبة، ومن يحاربهم يعرض نفسه للتهلكة؛ فما رأي الشرع في هذا الكلام؟
– شرعاً، المحتل لأرضك والمغتصب لها يجب عليك أن تدافع عنها بكل ما تستطيع، والله تعالى يقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، والنبي صلى الله عليه وسلم خاض معظم الغزوات وقوة المسلمين فيها أقل بكثير من قوة المشركين عدداً وعدة؛ مثل «بدر»، و»أُحد»، و»الأحزاب».. ففي جهاد الدفع لا يطلب الشارع الحكيم منك التساوي في القوة العسكرية، وإنما المطلوب منك أن تدفع بما تستطيع، ولا تجعل لهذا المحتل رجلاً تستقر، تهاجمه بكل ما تستطيع من قوة.
فلو أن إنساناً دخل عليك في بيتك وأنت ليس معك إلا أسرتك، وهذا الإنسان دخل بعدته وعتاده، هل تستسلم أم تدفع بكل ما تستطيع؟
وهذا هو المطلوب من المقاومة، أن تدفع بكل ما تستطيع، والباقي والنصر على الله تعالى، فليس المطلوب شرعاً في جهاد الدفع المعادلة والتساوي، أما في جهاد الطلب، فالأمر يختلف، فقد تكون هناك هدنة، أو صلح، أو معاهدة، ولا بد أن تكون القوة متساوية، فمن يطلب العدو لمنازلته عليه أن يعد عدته، أما من يدفع العدو فعليه أن يدافع بكل ما يستطيع من قوة، وهذا ما يفعله الفلسطينيون اليوم؛ فأرضهم محتلة، وهذا العدو المحتل عدو غاشم لا يفهم إلا منطق القوة، وثبت أنه لا يضع أي اعتبار لقرارات دولية، ولا أي اعتبار لجوار، ولا أي اعتبار للإنسانية، أو السياسة، فهو عنده سياسة الأمر الواقع، ويفرض نفسه بالأمر الواقع، لكن فصائل المقاومة بقطاع غزة استطاعت أن تعمل معادلة عسكرية معه، فمن كان يستطيع أن يوقف نحو 30 ألف يهودي كانوا يريدون اقتحام المسجد الأقصى، في ظل غطاء سياسي وأمني وعسكري وقانوني.
ولولا الله تعالى، ثم دخول «كتائب القسّام» وفصائل المقاومة على الخط، وقصفها للكيان الصهيوني، لما تراجع الكيان الصهيوني وألغى مسيرة الثلاثين ألف يهودي لاقتحام المسجد الأقصى، وكانت التكلفة عالية من جانب الإخوة في فلسطين، وخصوصاً في غزة الصامدة، حيث تم تدمير البنية التحتية وقتل الأبرياء، ولكن في المقابل تحققت أهداف قد لا تكون منظورة، منها:
1- إحياء الأمة بعد أن كانت ميتة.
2- تبين أن الذي تدّعي أنه صديقك صار عدوك، فالولايات المتحدة الأمريكية بقيادة «جو بايدن» أعلنت تأييدها للكيان الصهيوني وحقه في الدفاع عن نفسه، فأمريكا مع الكيان قلباً وقالباً.
3- اتضح أن المطبِّعين القدماء ما زالوا على العهد، وما زالوا يحاصرون قطاع غزة، فلا تعتمد عليهم.
4- كشفت رؤوس الصهاينة العرب، الذين يزعمون أنهم عرب، ولو كشفت جلودهم لعلمت أنهم ليسوا كذلك.
5- استنهاض الأمة، فالأمة بدأت تنهض مرة أخرى وتنادي بقضية الجهاد، والمرابطة، وبدأت تلتفت إلى غزة وصعدت الأصوات في كل مكان مطالبة بإغاثتها، والمظاهرات في كل مكان من المسلمين وغير المسلمين، في أوروبا وآسيا وأمريكا، رافضين حصار مليوني نسمة يعانون من أوضاع مأساوية.
إذاً، فمن يقول: إن المقاومة لا تمتلك السلاح الكافي لمجابهة اليهود المحتلين، وإن عليها أن تستسلم وتستكين، نقول له: إنك على خطأ جسيم، ومصيبة كبرى، فهل إذا دخل محتل بيتي أستسلم له وأسلم له محارمي؟! هذا الكلام لا يقبل به الرجال مطلقاً.
ولو أخذنا بنظرية القلة والكثرة لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ولا غيرها، ولجلس النبي في مكانه، ولو أخذنا بهذه النظرية، لما خرج المستعمر الإيطالي من ليبيا، ولا المستعمر الفرنسي من المغرب والجزائر وتونس، ولا المستعمر الإنجليزي من الهند، وهذه سُنة التدافع، والله يقول: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) (الحج: 40)، فسُنة التدافع سُنة كونية، وأنت تدفع بما تستطيع، والله تعالى يقول: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) (التوبة: 14).
هناك بعض الأصوات تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صالَحَ اليهود، وإنه لم يقاتلهم إلا بعد معاهدات؛ فما رأيكم؟
– أنا أعتقد أن هذه المجموعة من الناس لا بد من تحديد طبيعتهم، هل يتبعون هيئات حكومية، أم هم أشخاص محسوبون على حكومات معينة، فهم ليسوا علماء متحررين مستقلين بذاتهم، بل تصنعهم الحكومات، حتى تعطي مبررات ومسوغات لتصرفاتها، وفي اعتقادي أن كل تصرفات الكثير من الحكومات لا تمت للشريعة، وليس لها علاقة بالشريعة أصلاً، فهي تنظر إلى مصلحتها السياسية، فإن كانت المصلحة السياسية مع المعاهدة طبَّعت.
وبعض الدول لها منطلقات سياسية لكنها تحتاج إلى غطاء؛ لإسكات الشعوب؛ لذا يحتاجون إلى هيئات شرعية، أو بعض العلماء الراغبين في التعاون معهم، وأنا لا أطعن في الجميع، ولكن بعضهم فقط يخرجون مبررات، علماً بأن المطبِّعين لما طبَّعوا أو عاهدوا لم يحتاجوا لمبررات، فالمبررات جاءت لاحقة وليست سابقة، والحكومات عندما يريدون شيئاً يفعلونه دون الرجوع إلى تلك الهيئات، فهم يبحثون فقط عن مصالحهم، ولا يبحثون عن قال الله أو قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء تطوعوا من أنفسهم، وصاروا ملكيين أكثر من الملك، وأوجدوا مبررات للتطبيع.
ولو دخلنا في التفاصيل الشرعية فعندنا في الشريعة: صلح، ومعاهدة، وعندنا تطبيع.
أما الصلح والمعاهدة والهدنة فهذه موجودة في الشريعة، منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم، كلها قائمة ومبنية على مصلحة الطرفين، وأنا المسلم أرى أن الحرب تضرني، فأقوم بالصلح بيني وبينهم، وأنا المسلم أرى أني ضعيف، فأقوم بمعاهدة بيني وبينهم، ولكن هذه المعاهدات التي وقَّعها النبي صلى الله عليه وسلم سواء مع مشركي قريش، أو مع قبائل اليهود الثلاث، كلها قائمة على شروط، وأنا أتحدى اليوم من يجوِّز المعاهدة أو التطبيع أن يأخذ بالشروط التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، فأحد هذه الشروط، يقول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) (الأنفال: 58)، مجرد أن تفكر أو تشك أن هناك خيانة من العدو، عليك أن تلغي هذا الصلح أو هذه المعاهدة.
فالمعاهدة مع قريش أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات، والنبي كان أضعف من قريش، وهم أقوى منه، والذي نقض الصلح هم قريش بقتالهم لخزاعة، فنقض الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح، وقام بغزوهم، ومن ثم تم فتح مكة، مع أن خزاعة ليسوا بأصحاب النبي، بل هم حلفاؤه فقط.
والمتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه في كل مرة عاهد فيها اليهود كان يحدث منهم بعض الأفعال التي تقتضي منه صلى الله عليه وسلم نقض العهود معهم رداً على إساءتهم.
ولو تساءلنا: ماذا يفعل اليهود الآن؟ هم يفعلون أكثر مما فعلت قريش، فلم يزد فعل قريش عن قتال حلفاء النبي فقط؛ وبالتالي قام الرسول صلى الله عليه وسلم بنقض الصلح معهم، أما اليهود الآن فهم يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، ويهدمون المباني على رؤوس ساكنيها، وينتهكون الحرمات، ويدمرون البنى التحتية، وينتهكون حرمة المسجد الأقصى، وكل واحدة من هذه الانتهاكات جديرة بأن ينقض كل من طبَّع مع الكيان الصهيوني معاهدة الصلح معه، هذا إن كانوا يسيرون حقاً على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الآخر العقود التي وقَّعها النبي صلى الله عليه وسلم كانت مؤقتة، وليست دائمة، فكان أكثرها عشر سنوات، قال تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4)، بمعنى أن يكون هناك وقت لأخذ الأنفاس، سواء للمسلمين أو للطرف الآخر.
وصلح الحديبية الذي وقَّعه الرسول صلى الله عليه وسلم كان بمثابة فتح له وللمسلمين، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) (الفتح: 1)؛ لأن في التوقيع على صلح الحديبية إغلاقاً للجبهة الجنوبية، وفتحاً للجبهة الشمالية، ففتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، بمجرد توقيع العهد.
وما يقال الآن عن العهود كله كلام عار عن الصحة، والتطبيع هو مرحلة متقدمة، فالتطبيع ليس معاهدة، بل تعود العلاقة إلى طبيعتها ويكون هناك اعتراف دائم باستيلائك على الأرض وما تحت يدك.
هناك من الإسلاميين والعرب من يتهم بعض المنظمات الفلسطينية بالعلاقات مع إيران؟
– أنا لست معنياً بالدفاع عن أي منظمة؛ فالمفترض أنهم هم يدافعون عن أنفسهم، ولكنني بما سمعت من الإخوة في «حماس»، بأن كل الأبواب تم إغلاقها في وجوهنا ولم نجد يداً تمتد إلينا غير الأيدي الإيرانية؛ فلم يكن هناك غيرها يمد لنا طوق النجاة، وبالتالي كان لا بد من التشبث بها من أجل الحياة، وفي النهاية هذه مصالح وسياسات، وكل دولة لها مصالحها وسياساتها الخاصة بها، ونحن في الكويت في سبيل التحرير من الغزو العراقي تعاونا مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول حتى نتخلص من الغزو العراقي.
فأنا عندما أطرق الأبواب وتوصد أمامي، سوف أضطر أن أتعامل مع من يفتح الباب أمامي، أياً كان، وليس لنا الحق في أن نعتب على الإخوة في “حماس” وغيرها من المنظمات الفلسطينية التي تتعاون مع إيران، إلا إذا كان قرارها مرهوناً بإيران، وأنهم لا يملكون قرارهم السياسي أو السيادي، أما إن كانت المساعدة لا يترتب عليها أن يكونوا تبعاً لإيران فلا غبار عليها، لكن مثلاً إذا كانت المساعدة مقابل نشر الطائفية في غزة، فمن حقنا أن نعتب على الإخوة في “حماس” وبقية المنظمات الفلسطينية، لكن إن كانت المساعدات بدون مقابل غير الإشادة بها، فهذا لا غبار عليه.
ولا يخفى علينا أن أكثر الدول الخليجية لها علاقات وطيدة مع إيران، بل إحدى الدول الخليجية التي تطلق على إيران بأنها عدو، يوجد بينها وبين إيران أكبر تبادل تجاري، فإن كانت المصالح السياسية تقتضي من تلك الدولة توطيد علاقاتها مع إيران، إذاً لماذا يتم لوم وعتاب الإخوة في فلسطين، إن كانت مصالحهم السياسية والعسكرية تقتضي توطيد العلاقات معها.
فمن يعترض على التعاون الذي يتم بين المنظمات الفلسطينية وإيران، عليه أن يعرض خدمات على تلك المنظمات، وبالتالي هم مباشرة من أنفسهم سيوقفون تعاونهم مع إيران.
ما زال بعض الكويتيين غاضبين على الفلسطينيين بسبب موقفهم أيام الغزو، فما تعلقيكم؟
– نحن نتحدث عن مأساة إنسانية، وانتهاك مقدسات، وأرض مغتصبة، ونصف الشعب يذوق الهوان يومياً، والنصف الآخر في عالم الشتات، قبل أن نتحدث عن الشعب الفلسطيني وما فعله في أثناء الغزو، وسواء نحب أهل فلسطين أو لا نحبهم أو نحب منظمة التحرير أو «حماس» أو الإخوان، كل ذلك لا بد أن يتم تنحيته جانباً، نحن نتحدث عن أرض الأنبياء المباركة، أرض الإسراء والمعراج، فاليهود الصهاينة والنصارى بكل مذاهبهم البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، عندهم اهتمام عجيب بأرض فلسطين، لأنها أرض مقدسة بالنسبة لهم، بالرغم من أنهم علمانيون، ولا يمتون للدين بصلة، ومع ذلك لديهم اهتمام بها، ويدعمون الكيان دعماً لوجستياً، ومالياً، وعسكرياً.
وكذلك فلسطين هي مقدسة عند المسلمين، بنص القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي أرض الإسراء والمعراج، وكانت عهدة عند الصحابة، وعند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنها فيما يُعرف بالعهدة العمرية، وقد توالى عليها الخلفاء والأمراء المسلمون على مر العصور والدهور، وأعطوها اهتماماً كبيراً يليق بها، ولذلك نقول للغاضبين على أهل فلسطين والشعب الفلسطيني: اعتبروا أن الشعب الفلسطيني غير موجود، واهتموا بقداسة الأرض، هذا من ناحية.
فكون أن منظمة التحرير لم تقف معنا في أثناء الغزو، فهي منظمة التحرير، وليست كل الشعب الفلسطيني، وجماعة ياسر عرفات، ومحمود عباس، في ذلك الوقت، كانوا يرون أن صدام حسين له يد عليهم، وهو الممول والداعم الأول بالمال والسلاح لهم، لذا كان موقفهم من الغزو ليس كراهية في الكويت وأهلها، بل كان موقفهم رداً لجميل صدام عليهم.
وهذا الموقف مخز بلا شك، لكن لم يشترك فيه كل الطوائف أو الشرائح الفلسطينية.