إن منكري السُّنَّة المعاصرين يكثرون من ذكر هذه الشبهة، ظانين أن هذه الشبهة هي الضربة القاضية للهدي النبوي، وليست هذه الشبهة جديدة، فالزنادقة –قديماً– ادعوا هذه الدعوى، من الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وساقوا بين يدي هذه الدعوى الشيطانية حديثاً قالوا فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا”، ولقد قال أهل العلم بالحديث النبوي: إن هذا الحديث موضوع ومكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الزنادقة والخوارج هم الذين اخترعوه من عند أنفسهم تبعاً لأهوائهم، وممن قضى عليه بالوضع الإمام عبدالرحمن بن مهدي شيخ الإمام البخاري، وبعض العلماء جاروا الذين وضعوا هذا الحديث ليبطلوا دعواهم، فقالوا: قد عرضنا حديثكم هذا على كتاب الله فوجدناه مخالفاً للقرآن؛ لأننا لم نجد في القرآن “ألا نقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق القرآن، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي والأمر بطاعته ويحذر من مخالفة أمره على كل حال”.
منكرو السُّنة يتعمدون إثارة الشبهات حول حجية السُّنة النبوية.. ويبحثون عن الأحاديث الموضوعة والضعيفة ويتمسكون بها
قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال: 20)، وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء: 80).
ولقد ساق أصحاب هذه الشبهة بعض الأمثلة كان الباعث عليها عندهم أحد أمرين:
– إما الجهل إن كانوا صادقين عند أنفسهم فيما يقولون.
– وإما العناد؛ ليشتروا بآيات الله تعالى ثمناً قليلاً من مال أو شهرة، وفيما يأتي نماذج من ادعاءاتهم الجاهلة:
رجم الزاني المحصن:
عدالة الإسلام اقتضت أن تكون جميع العقوبات الدنيوية مناسبة للجرائم المعاقب عليها، فلم يضع القرآن عقوبة شديدة على جرائم خفيفة، ولا عقوبة خفيفة على جرائم “غليظة”، هذا مبدأ عام في الإسلام، وقد تكون الجرائم المعاقب عليها واحدة في حقيقتها وصفاتها ثم تختلف العقوبة الموضوعة لها مراعاة للظروف التي وقعت فيها الجريمة، وهذا ما نراه بكل وضوح في جريمة “الزنى” إذا وقعت من غير المحصن، أو وقعت من المحصن، وعدم الإحصان يكون غالباً في مرحلة الشباب، وهي أكثر مراحل العمر إحساساً بالغريزة “الجنسية”، ويكون الشباب أضعف ما يكونون قدرة على كبح جماحها ومقاومتها، وهذا ظرف مخفف للعقوبة على جريمة الزنى إذا وقعت في هذه الأحوال؛ لذلك جعل الإسلام عقوبتها الجلد مائة؛ جاء ذلك في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور: 2)، أما المحصن إذا زنى، وعنده من الحلال ما يغنيه عن الزنى رجلاً كان أو امرأة، فهذه الجريمة تقع منه ولا عذر له فيها، ولذلك جعل الإسلام عقوبة هذه الجريمة هي الرمي بالحجارة حتى الموت، والعقوبة الأولى (الجلد مائة) ثابتة بالنص القرآني كما تقدم، وأما العقوبة الثانية “الرجم” فطريق ثبوتها هي السُّنَّة النبوية القولية والعملية على حد سواء.
رواية “ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله..” حجة عليهم وليست لهم
السُّنَّة القولية: حديث عبادة بن الصامت: “خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ ” (رواه مسلم).
السُّنة العملية: الوقائع التي حدثت في عصر النبوة، وتم فيها رجم الزناة المحصنين مشهورة، وأشهرها واقعتان، هما: رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما جاءه مقراً بأنه زنى، ثم رجم “الغامدية” التي صلى عليها النبي صلاة الجنازة بعد رجمها، وأثنى على حسن توبتها والرجوع إلى الله، ثم نهج الخلفاءُ الراشدون رضي الله عنهم نهج الرسول في رجم الزناة المحصنين، واتفق على عقوبة “الرجم” علماء الأمة.
مغالطات منكري السُّنَّة:
منكرو السُّنَّة يقولون: إن أحاديث ووقائع رجم الزاني المحصن أحاديث ووقائع باطلة، لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرجم زانياً، حتى وإن وردت هذه الأحاديث والوقائع في صحيحي البخاري، ومسلم، وفي غيرهما من كتب الصحاح!
هكذا يقولون بكل إصرار وجزم؛ والسبب عندهم أن هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن، لأن القرآن حدد عقوبة الزنا بالجلد مائة في الآية الثانية من سورة “النور” ولم يفرق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وما دامت هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن فهي إذن باطلة، ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
ونواجه هذه الشبهة “شبهة مخالفة السُّنَّة للقرآن” بما يلي: إن قولهم إن أحاديث رجم الزاني المحصن باطلة؛ لأنها جاءت مخالفة للقرآن، فهذا القول لا يصدر إلا عن جاهل بالقرآن والسُّنة، فهذه الأحاديث وما صاحبها من وقائع عملية لا مخالفة بينها وبين القرآن إلا في أوهام الجهلة والمعاندين.
إثارة الشبهات حول السُّنة تصدر إما عن جهل وإما عن سوء نية
فالقرآن الكريم يجرم الفساد والإفساد في الأرض في عدة مواضع، قال تعالى: (وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 60)، وقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف: 56)، وقال تعالى: (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ) (القصص: 77)، وما دام الفساد والإفساد في الحياة محرماً ومنهياً عنه كان من الحكمة وضع عقوبات دنيوية عاجلة، على هذا الفساد كما ورد في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
في هذه الآية الحكيمة وضع الله أربع عقوبات لجرائم الإخلال بالأمن العام والخاص وانتهاك الحرمات، وهي الجرائم التي يصدق عليها وصف محاربة الله ورسوله، والإفساد في الأرض، والزنى، من أبشع الجرائم الخُلقية، المسقطة للمروءة والشرف، وقد أجمعت الرسالات السماوية على تأثيمه وزجر مقترفيه، وبالنظر إلى العقوبات الأربع التي وردت في آية “المائدة” نجد أن القرآن الكريم جعل العقوبة الأولى هي “التقتيل”، والزنى من أفحش أنواع الفساد والإفساد في الأرض، والرجم الذي ورد في السُّنَّة الطاهرة عقوبة للزناة المحصنين نوع من “التقتيل” الذي ورد في آية “المائدة” عقوبة أولى على محاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض، فالقرآن والسُّنة في توافق تام في تحديد هذه العقوبة، فأين مخالفة السُّنَّة للقرآن في تحديد الرجم للزناة المحصنين، كما يزعم منكرو السنة النبوية؟
ليس هناك تعارض بين القرآن الكريم والسُّنة في حد رجم الزاني المحصن.. ولا في توصية السُّنة بأنه “لا وصية لوارث”
لا وصية لوارث:
ومن الأحاديث التي عدوها مخالفة للقرآن، قوله صلى الله عليه وسلم: “لا وصية لوارث”، وقابلوا بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 180)، وظهر لهم من خلال هذه المقابلة، أن الآية والحديث متعارضان، فالآية تحث على الوصية عند الموت للوالدين والأقربين، والوالدان من ورثة الميت بلا جدال، وكذلك الأقربون كالإخوة والأخوات والأبناء، وهم أقرب فروع الميت، أما الحديث فينفي صحة الوصية للوارث، سواء كان أصلاً للميت كالأب والجد، أو فرعاً كالابن وابن الابن وهذا حملهم على القول بأن الحديث باطل لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مخالف للقرآن، ولو عرفوا تاريخ التشريع لما وقعوا في هذه المخالفة التي خُدعوا بها، فهذه الآية الكريمة نزلت قبل آيات المواريث التي بدأت بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: 11)، وكان المتبوع عند الناس قبل نزول آيات التوريث أن المالك حر في توزيع تركته، غير ملزم بنظام معين وربما حرم الأبناءُ آباءهم وأمهاتهم من منحهم شيئاً من أموالهم وهم في ساعة الاحتضار، وهذا غبن للآباء والأمهات، فنزلت الآية تذكر الأبناء بما لوالديهم عليهم من حقوق، تستوجب الإحسان إليهم وتخصيص مقدار من أموال التركة لهم، وللأقربين الأدنين ولما نزلت آيات التوريث، ووزع الله تركة الميت توزيعاً عادلاً بين أصوله وفروعه، وبين الأزواج، وحدد الله أنصباء الآباء والأمهات فيما بين الثلث والسدس وكذلك الأبناء والإخوة والأخوات، وبعد هذا التحديد الإلزامي لأنصباء الوالدين والأقربين صار من الظلم أن يجمع الوالدان والأقربون بين نصيب كل منهم من تركة المتوفي، وبين مال يستحقونه عن طريق الوصية، لذلك أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: “لا وصية لوارث” تحقيقاً للعدل والإنصاف، فالوصية شرعت في ظل حرمان الوالدين والأقربين من تركة المتوفي، وبعد توزيع التركة إلزامياً على الوالدين والأقربين، لم يعد للوصية لهم سبب.
هذا هو فقه المسألة، وبه يزول توهم مخالفة السُّنَّة للقرآن، ومحال أن يكون بين السًّنَّة والقرآن مخالفة ظاهرة أو خفية، لكن منكري السُّنَّة يتخذون من جهلهم المركب بالقرآن والسُّنَّة، وقيم الإسلام ومبادئه السامية، يتخذون من هذا الجهل قاضياً على حقائق الإسلام، ومع هذا الجهل يتباكون على حاضر الأمة ومستقبلها، ويجعلون سًّنَّة خاتم النبيين هي السبب في تخلف الأمة وضياعها؛ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا) (الكهف: 5).