بعد استعراض تاريخي وسياسي طويل، كان من بين ما استخلصه د. جمال حمدان، الجغرافي والمفكر المصري المعروف، خلاصة سماها «المعادلة العالمية لأساسيات الصراع في المستقبل»، تتألف من عدة متتاليات إقليمية على هذا النحو:
– مصير الإمبريالية العالمية يتوقف على مصير العالم الثالث.
– مصير العالم الثالث يتوقف على مصير العالم العربي.
– مصير العالم العربي يتوقف على مصير فلسطين/ «إسرائيل»(1).
إنه من الخطأ تصوّر أن المعركة في فلسطين هي مشكلة بين العرب و”الإسرائيليين”، أو هي مشكلة بين المسلمين واليهود، بل ولا هي مشكلة أرض محتلة؛ بل التصور الصحيح لها أنها مركز الصراع الحضاري العالمي، وهذا التصور هو وحده ما يفسر كيف أن اشتعال المواجهة في فلسطين تتردد أصداؤه في عواصم الشرق والغرب، وتنفعل له الشعوب والحكومات، ويحظى باهتمام لا تحظى به كوارث إنسانية أخرى في العديد من مناطق العالم.
أحاول في هذه السطور إلقاء الضوء على مسألة أن “إسرائيل” هي المولود الطبيعي للحضارة الغربية، تحمل خصائصها وجيناتها، وأن الغرب إنما صنع هذه المشكلة ثم غرسها في بلادنا قسراً وقهراً، وتعهدها بالرعاية والعناية والحراسة، وذلك عبر استعراض تاريخي سريع موجز لجذور هذه النشأة.
أوروبا كانت تأكل نفسها ما دامت الدول الإسلامية قوية فإذا ضعفت بدأت أوروبا في التمدد إليها
جذور الصراع
عانت أوروبا من الحروب الدينية المهلكة في عصورها الوسطى المظلمة، وتعددت المذابح التي نفّذتها السلطات الدينية في المخالفين، وابتكرت أوروبا محاكم التفتيش التي تمارس التعذيب الوحشي وتعاقب بالإحراق لكل من ثبت عنده اتباع الشياطين.
واختلطت هذه الحروب الدينية بالصراعات السياسية، وبقدر ما لبست الأطماع السياسية ثوب الدين والروح الصليبية، ألهبت الروح الصليبية الحروب السياسية، ولأن العالم الإسلامي يحيط بأوروبا من جهتي الشرق والجنوب، ولا يوجد في الشمال والغرب إلا البحار، فإن أوروبا كانت تأكل نفسها ما دامت الدول الإسلامية قوية، فإذا ضعفت الدول الإسلامية بدأت أوروبا في التمدد إليها وتصدير مشكلاتها ومحاربيها وروحها الصليبية إلى الأراضي الإسلامية، وهو الأمر الذي ابتدأ في الحروب الصليبية شرقاً، وفي اجتياح الأندلس والشمال الأفريقي غرباً وجنوباً.
عبر فصول طويلة ومعقدة من الصراع الداخلي الأوروبي، توصل الأوروبيون إلى بعض الحلول لهذه المشكلات المزمنة والمهلكة، كان من بينها فكرة القومية، والقومية ببساطة هي أن تكون أعراق الناس أو لغتهم هي معيار التقسيم بينهم؛ فأولئك الذين يجمعهم عرق وأرض، أو تجمعهم لغة وأرض، هم قوم من دون الناس.
ومن هنا يُعَدّ صلح «وستفاليا» (1648م) لحظة فارقة تاريخياً، حيث صارت الدول تعبيراً عن قوميات، وصار لكل دولة سيادة، وصار الاعتداء على سيادة الدولة مبرراً لشن الحروب، وتراجعت منزلة الدين بحيث يكون محكوماً بالدولة، وبحيث تكون مصلحة الدولة فوق رؤية الدين، وتتولى الدولة منح حق المواطنة للأفراد بغض النظر عن اختلاف الدين.
ما يهمنا الآن أن هذه الفكرة القومية هي التي اعتمدت عليها الصهيونية في إنشاء وطن لليهود، إذ هم قوم بلا دولة، ولكي تنتهي المشكلات التي يعانيها اليهود في أوروبا وروسيا، أو يعانيها الأوروبيون والروس من اليهود، يجب العمل على إنشاء دولة لليهود، وحيث لن تفرط أي دولة أوروبية في قطعة من أرضها لليهود، فقد بحثوا عن دولة يقيمها اليهود في إحدى الدول التي احتلتها أوروبا في أفريقيا أو آسيا، ثم انتهى التدبير إلى إقامتها في فلسطين.
وهكذا دفع العرب والمسلمون ثمناً فادحاً للفكرة القومية التي ولدتها أوروبا لتحل بها مشكلاتها!
الإصلاح الديني
ومن الحلول التي تمخض عنها الصراع الأوروبي الداخلي فكرة التخلص من سيطرة الكنيسة، وهي الفكرة التي سميت بالإصلاح الديني الذي تمثل في البروتستانتية، أو ذهبت بعيداً نحو التخلص من الدين كله، والذي تمثل في العلمانية.
لنبدأ بالبروتستانتية، التي هي الحاضنة الطبيعية للصهيونية غير اليهودية، وذلك أن «مارتن لوثر» في إطار محاربته لسيطرة الكنيسة وباباواتها وتفسيراتهم للدين، اتخذ مواقف وتفسيرات مضادة لهم ولتفسيراتهم، بل إنه أقدم على طباعة الكتاب المقدس، ثم تُرجم فيما بعد إلى اللغات القومية الأوروبية، وهي الخطوة الخطيرة التي فككت سيطرة الكنيسة وأضعفتها في أوروبا، ولكن الأخطر من ذلك –فيما يهمّنا نحن- أن الأفكار التي اعتنقها «لوثر» والبروتستانتية من بعده تؤكد أن اليهود هم أصحاب فلسطين، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم سيعودون إلى فلسطين، ثم يأتي المسيح بعد عودتهم لينصرهم ويقودهم في المعركة الكبرى «هرمجدون»، ليبدأ بعدها العهد الألفي السعيد.
وعبر مراحل تاريخية مختلفة سادت البروتستانتية على نصف ألمانيا وعلى هولندا، وسادت –وهذا هو الأهم- على بريطانيا ثم على أمريكا، ومن ثَمَّ صارت الأفكار الدينية السائدة في هذه الأنحاء هي حجر الأساس والبيئة المناسبة التي استثمرتها الحركة الصهيونية وطوَّرت مشروعها اعتماداً عليها.
لقد بذل «هرتزل»، و»حاييم وايزمان» –خصوصاً هذا الأخير- مجهوداً مضنياً في التمكين للصهيونية من هذا الباب، ولكن هذا المجهود المضني اعتمد أساساً على الأفكار التي اختمرت لثلاثة قرون في أوروبا منذ عصر «مارتن لوثر» وحتى القرن العشرين، التي أنتجت كثيراً من الأدبيات والمؤلفات والأشعار، بل والمبادرات الفردية والصغيرة للهجرة إلى فلسطين، بل والمحاولات السياسية غير المكتملة لإنشاء وطن لليهود في فلسطين.
وهكذا دفع العرب والمسلمون ثمناً فادحاً للإصلاح الديني الذي ولدته أوروبا كحل لمشكلة السيطرة الكنسية على شعوبها!
النزعة العلمانية
ثم نأتي لحل العلمانية الذي أخرجته أوروبا في إطار تخلصها من سيطرة الكنيسة، فمن لم يخرج من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، فإنه خرج من سيطرة الكنيسة إلى العلمانية، ليتخلص من سيطرة الدين تماماً، وظهرت في أوروبا الدول العلمانية التي لم تتخلص تماماً من روحها الصليبية، وإنما استثمرت هذه الروح في التمكين لمصلحة الدولة وإلهاب معنويات الجيوش التي تحتل البلاد الأخرى، وفي تنصير الشعوب الأخرى لتضمن خضوعها وتسلب منها مقاومتها إلى الأبد.
وما يهمنا في هذا أن النزعة العلمانية بطبيعتها نزعة لا أخلاقية، فقد سعت العلمانية الغربية إلى حل مشكلات الداخل الأوروبي بتصديره إلى البلاد المحتلة، وسعت إلى استثمار الحركة الصهيونية التي تحث على هجرة اليهود من أوروبا ليتحقق بذلك مصلحة التخلص من اليهود في الغرب، ومصلحة تمزيق الأمة الإسلامية بإنشاء دولة في قلب الأرض الإسلامية تكون بمثابة القاعدة الغربية العسكرية المتقدمة، التي تستنزف الطاقة الإسلامية وترتبط ارتباطاً حتمياً بالأب الغربي.
وقد استفادت الصهيونية من هذه النزعة، فوضعت نفسها في إطار النزعة الإمبريالية الغربية، وطرحت نفسها باعتبارها المشروع الأنسب الذي يوفر على الغرب الحروب المباشرة والسيطرة المباشرة في المنطقة، مع تخليصهم من المشكلة اليهودية، لتكون «إسرائيل» هي المشروع الغربي الاستعماري الذي يستحق الاستثمار فيه، لتحقيق أفضل النتائج بأقل التكاليف المباشرة.
وهذا هو معنى أن «إسرائيل دولة وظيفية»، تلك الفكرة التي أطال المفكر المعروف عبدالوهاب المسيري في شرحها والتنظير لها، سواء في موسوعته عن الصهيونية، أو في كتاباته الأخرى التي تناقش العلمانية وتجعل الصهيونية ثمرة من ثمار العلمانية المادية.
ومن أوضح ما يدل على الطبيعة اللاأخلاقية للعلمانية الغربية، أنها دعمت إنشاء وطن قومي لأصحاب دين بعينه، وسهرت على حراسة هذه الدولة الدينية العنصرية، في خيانة ظاهرة لكل المزاعم العلمانية التي تتحدث عن حقوق المواطنة، ومناهضة العنصرية، وعدم التفريق بين المواطنين على أساس العرق واللون والدين.
وهكذا دفع العرب والمسلمون ثمناً فادحاً للعلمانية التي أنتجتها أوروبا كحل لمشكلة السيطرة الكنسية على شعوبها!
الصهيونية طرحت نفسها باعتبارها المشروع الأنسب الذي يوفر على الغرب الحروب المباشرة والسيطرة على المنطقة
المشروع “الإسرائيلي”
بقي أخيراً أن نشير إلى أن «إسرائيل» هي بنت الحضارة الغربية عملياً، فما كان للصهيونية أن تتحول إلى دولة بغير الدعم الهائل المتعدد الأنواع والمستويات؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً وعلمياً وحتى ثقافياً.
لقد كان المشروع «الإسرائيلي» على جدول أعمال القادة الغربيين على اختلاف أنواعهم ورؤاهم، منذ «نابليون» مروراً بـ»دزرائيلي»، و»بالمرستون»، و»لويد جورج»، و»بلفور»، وصولاً إلى «ترمب»، و»بايدن»، إن دعم «إسرائيل» هو واحد من ثوابت السياسة الدولية الغربية مهما تغيرت الوجوه والمذاهب، ولا تضطرب العلاقة بين «إسرائيل» وأمهاتها الغربية؛ فرنسا وبريطانيا وأمريكا، حتى في اللحظات التي يعمل فيها «الإسرائيليون» ضد مصالح هذه الدول.
وفي سبيل إنشاء «إسرائيل» وحمايتها، رسمت الدول الكبرى منذ بريطانيا وحتى أمريكا سياستها تجاه الأنظمة العربية المهمة، ولا سيما أنظمة دول الطوق، وأشرفت على تنصيب هذه الأنظمة وعلى تدريب جيوشها وتسليحها، ورسم سياساتها، حتى صار المتطلع في بلد ما إلى منصب سياسي يعلم بالبديهة أن الطريق يمر عبر «إسرائيل»، فيجتهد في نيل الرضا «الإسرائيلي» وتقديم ما يثبت أن «الإسرائيليين» سيكونون معه في حال أفضل من حالهم مع غيره، وهذه قصة تطول وتستغرق الفصول والفصول، أقلها معروف مكشوف وأكثرها مغمور مجهول.
لهذا كله، فإن المعركة في فلسطين ليست معركة الفلسطينيين، ولا هي مجرد قصة احتلال، بل هي مركز الصراع الحضاري العالمي، الذي يترتب عليه ويتغير به الوضع العالمي كله، إن المعركة هناك تختزل صراع الحق والباطل، صراع المستضعفين والمستكبرين، صراع الشعوب والطغاة!
إنها ليست حروباً صليبية جديدة، إنها امتداد الحروب الصليبية، بعدما أضيف إليها الروح الصهيونية، والنزعة العلمانية المادية!
إنه الصراع المركب المتعدد الطبقات والمستويات، ولذلك تجد هذا الصراع كاشفاً للغاية، فكلما تجدد تمايز الناس به إلى طائفتين متقابلتيْن، لا يلتقي أحدهما مع الآخر ولو امتزج الزيت بالماء!
_______________________________________________________________
(1) جمال حمدان، إستراتيجية الاستعمار والتحرير، ط1 (القاهرة: دار الشروق، 1983م)، ص351.