كعادته نام مبكرا؛ فالشتاء يستدعى الخمول؛ يحتاج الطعام والحساء ينفث دخانه فتستدفئ منه بطون الجوعى، كل هذا صعب في زمن الحروب؛ حيث الأسواق تعاني الكساد والباعة يمنعهم المطر من أن يفترشوا الأرض.
توسد ذراعه وحاول أن يغمض عينيه، تتابعت مشاهد من حياته مثل شريط سينمائي تعرضه قناة الذكريات، تدوي الريح كأنها في عراك مع الأشجار التي مات صاحبها منذ فترة وجيزة؛ كل شيء هنا يصدر أنينه، قطرات المطر.. دموع تذرف على طيب غادر عالمه، وسكن الدار الآخرة.
انصرف إلى الصخب الذي يمور من حوله، ريح السموم تتوعد بحروب وصراعات، يبدو أن هذه سنة عجفاء، ريح ولا مطر، حزن ولا دموع!
أي عالم هذا؟
يضرب البرد جدران حجرته، يعاني وحشة الموت؛ ارتحل سنده وظهره الذي كان يحتمي به، ذبل الذراع الذي كان يتساند عليه.
بقيت عصاته وحيدة يتيمة، مَن بعده يتوكأ عليها؟
إنها سنة تديرها رحى الحروب وتنتشر فيها الأفاعي، افتقد قلب أبيه الذي كان يمتلئ بالحب.
لا حاجة به لغير كوب من الشاي يحتسيه ويستدفئ به، كتاب يتصفحه وقد يدخل صفحة أحد هؤلاء الكسالى ويشاغب معه في حوار يغلفه الترف الذي يقتل به وقت الفراغ؛ ذلك الفضاء الأزرق غول يلتهم كل العمر، يضغط زر الكهرباء فتستحيل الحجرة إلى ظلام قبو يئن فيه الليل!
يتناهى إلى أذنه صوت مذيعة نشرة الأخبار؛ تتراقص الحروف في فمها؛ يبدو أنها تعزف قطعة موسيقية تشبه سيمفونية موتسارت؛ طائرة أمريكية تصطاد أحد من تصفهم بالخطيرين؛ ينتابه ضحك وتثير شهيته سخرية لا مبرر لها؛ إنها تتخلص من الأشياء التي فقدت قيمتها مع مطلع العام الجديد.
يستبد به الكسل مرة أخرى، صخب الأشجار ومواء القطط ونباح الكلبين جعله كل هذا يتراخى مجددا، يحاول أن يستدعي مبررا لما يدور حوله؛ لا شيء.. إنه نزق سرعان ما ينتهي، يتناوم مجددا، لكنه لا يستطيع؛ تنعقد في ذهنه مقارنة بينها وبين زميلته في المدرسة؛ لا تحسن الكلام ولا تجيد مخارج الحروف؛ كتلة لحم بشري تتحدرج بين الفصول، لكنها طيبة القلب.
تتوالى مفردات المذيعة ناطقة بعبارات وآتية بأنواع غريبة من مفردات آلات الشر؛ يبدو أنها تخرجت في إحدى القواعد العسكرية؛ نظرات عينيها وقوام جسدها وسرقة عقول المشاهدين؛ ربما تكون تلك خطة ماكرة لتسيطر على أمثاله.
هذه أدوات الجيل الرابع من الحروب؛ يبدو أن العثمانلي يريد أن يغرق في بحر البحر العظيم؛ لم يتعظ من الجنرال روميل ثعلب الصحراء حين افترسته “العلمين”.
عبر شاشة القناة مداخلة من خبير في الصراعات الدولية؛ يشتم من صوت المذيعة حقدا ماكرا؛ إنها تشتهي أن ترى خرابا؛ حمى الله بلادنا؛ يتربصون بها نهرا وحدودا!
حاول أن يخرج من تحت غطائه الدافئ؛ دارت في ذهنه فكرة؛ أن يكتب لافتة كبيرة ويعلقها في الصباح على أعلى شجرة في قريته؛ سيكتب عليها: لا تشاهدوا المذيعة!
استراح لتلك الفكرة؛ مؤكد أن العصافير وحدها ستفرح بها؛ ستتراقص فوقها؛ ترى هل سيمتنع العثمانلي عن إرسال جنود الإنكشارية إلى طرابلس الغرب؟
كم يكره هؤلاء الذين يسرقون أرغفة الخبز ويذرون الفقراء جوعى؛ يتراقص الذهب في معصم المذيعة الحسناء مجددا.
يبلغ العطش به درجة صعبة؛ يطلب كوب الماء؛ تأتيه زوجته وقد قلدت صوت تلك الحسناء؛ تصبحون على خير!