مع بداية كل عام، يطل علينا المنجمون والدجالون ومدّعو قراءة الغيب بسيل متضارب من تنبؤاتهم عما سيحدث في العام الجديد، فيتنبأ هذا بحرب تنشب، وذاك بزلزال يضرب، وثالث بزعيم يُصعق، وآخر بجيش يُسحق!
لقد انتشرت في وسائل الإعلام والاتصال المقروءة والمرئية والمسموعة في البلاد الإسلامية ظاهرة غير إسلامية؛ ألا وهي «التنجيم»، بكل أنواعه، وادعاء معرفة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده عز وجل؛ فوجب التحذير منها، وإنكارها، حماية لجناب التوحيد.
لقد قضى الإسلام على كل مظاهر الخرافة والاحتيال والتلبيس والشعوذة والتلاعب بآمال الناس وآلامهم، وشدد في تحريمها، فغرس في قلوب أتباعه أن الله وحده سبحانه هو الذي يعلم الغيب ويقدر على النفع والضر، وواجب المسلم أن يتعلق بالله تعالى وحده، وأن يفوض أمره إليه.
الإسلام قضى على مظاهر الخرافة والشعوذة والتلاعب بآمال الناس وآلامهم وشدد في تحريمها
المنجمون يزعمون أنهم يعرفون المغيبات من أمور الناس، فيخدعونهم، ويأكلون بالباطل أموالهم؛ فهؤلاء لا يليق بمسلم أن يأتي إليهم، أو يسمع لهم، ولا يحل له أن يصدقهم، ويجب عليه تنبيه الناس إلى أضرارهم.
والكاهن يدعي معرفة الغيب بأسباب مختلفة، كضارب الحصى وقارئ الكف والفنجان، وكالعراف والرمّال والمنجّم الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه، وقد يستخدمون الظن والتخمين والحدس، أو التجسس، أو التجربة والعادة، أما الأخبار التي يصيبون فيها مما لا يستند إلى التجربة والحدس من الأخبار المستقبلية، فإن مصدره الشياطين، منازعةً رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بشيء»، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة».
وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية.
يذكر التاريخ أنه مع اقتراب عام 999م، ذكر العرافون أن نهاية العالم ستكون على آخر ذاك العام، وتدفق الحجاج المسيحيون إلى القدس أرض المحشر قادمين من كل أنحاء أوروبا في قوافل كبيرة تضم فئات المجتمع، كأنهم جيش عرمرم هائم على وجهه، بعد أن باعوا جميع ما يملكون من حطام الدنيا، وعيونهم متجهة نحو السماء في خوف ووجل يتوقعون أن تنفرج السماء ويهبط منها المسيح.
لا يزال 40% من الفرنسيين و30% من الأمريكيين يؤمنون بالتنجيم وهي تجارة بليونية في دول عديدة
ورغم ظهور كذب أدعياء الغيب، فإنه لم يتوقف بعض الناس عن تصديق الافتراءات والخرافات، فتنبأ المنجمون بأن نهاية العالم وفناء البشر ستكون عام 1186م، ثم عام 1986م، ولا يزال 40% من الفرنسيين، طبقاً لموقع «فرنسا 24»، وكذلك 30% من الأمريكيين يؤمنون بالتنجيم، طبقاً لاستطلاع «بيو» عام 2018م، وهي تجارة بليونية في كثير من دول العالم، مثل الهند، والصين، وسريلانكا، ونيبال، وبريطانيا.
التنجيم والسياسة
ويبدو أن المنجمين يتنبؤون بأشياء تتفق وطبيعة التوجهات السياسية؛ فقالوا: إن عام 1987م سيشهد انهيار كوبا ونيكاراغوا بعد وفاة «كاسترو»، ولم يحدث ذلك؛ فـ»كاسترو» مات عام 2016م.
وكان السياسيون ولا يزالون يستخدمون المنجمين لتنفيذ مخططاتهم؛ ولذلك فإن كثيراً من هؤلاء المنجمين يُشترون من أجهزة السلطة، ويطلبون منهم أن يؤثروا على من يصدقهم من الزعماء، وكثيراً ما يكون لأكاذيبهم التي صنعها السياسيون المحنكون الأثر الكبير في تضليل الشعوب.
وقد اعترف عميل سابق لوكالة المخابرات الأمريكية أن «نكروما»، رئيس غانا، و«سوكارنو»، رئيس إندونيسيا، والزعيم الألباني «شيحو»، أمكن التأثير عليهم بنجاح من خلال خرائط للنجوم سربتها لهم وكالة المخابرات، وأنه أمكن للمنجمين إقناع «نكروما» بزيارة فيتنام حتى يكون بعيداً عندما يقع الانقلاب عليه بتخطيط المخابرات الأمريكية عام 1966م، ومن قبل استطاعت المخابرات البريطانية استخدام المنجمين لتدمير القوات الألمانية في النرويج والدنمارك في الحرب العالمية الثانية، وقد تضمنت نشرات «اسأل النجوم» التي وزعها العملاء البريطانيون معلومات مزورة عن أمراض مثل التيفوس، والدوسنتاريا، لتوقف الجنود الألمان عن الخدمة في الجبهة الروسية.
عميل للمخابرات الأمريكية اعترف بأنه أمكن التأثير على رؤساء 3 دول بنجاح من خلال خرائط للنجوم مسربة
ورغم احتمال أن يكون التنجيم ضاراً لصناع القرار السياسي، أو يكون ببساطة خاطئاً، أو يؤدي إلى عدم ثقة ناخبيهم؛ فقد أثر التنجيم على السياسة في العديد من الحكومات، وعلى الرغم من اعتبار التنجيم غير علمي، فقد كان بمثابة أداة لصنع القرار السياسي في القرن العشرين، ولا يزال العديد من رؤساء الدول الشرقية يعتمدون على المنجمين، وهناك ثلاثة قادة سياسيين لحكومات حديثة اعتمدوا على المنجمين؛ فسيطروا على الجدول الزمني لرئاسة «ريغان» لمدة ثماني سنوات، ومارس أعضاء بارزون من النخبة الحاكمة في ألمانيا النازية وعلى رأسهم «هتلر» طقوساً غامضة واستأجروا منجمين، كما استخدمت «إنديرا غاندي» التنجيم.
تحذير الشريعة
يقول الله عز وجل: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: 65)، يخبر الله تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض، فهذه الغيوب ونحوها اختص الله سبحانه بعلمها، فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا؛ فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له عز وجل، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة، فقال سبحانه: (وَمَا يَشْعُرُونَ)؛ أي: وما يدرون (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)؛ أي: متى البعث والنشور والقيام من القبور؛ أي: فلذلك لم يستعدوا (تفسير السعدي).
لقد جاء الوعيد لمن يأتي مدعي علم الغيب؛ كالعرافين ونحوهم، وسؤالهم على وجه التعظيم لهم وتصديقهم؛ ففي الحديث الذي أخرجه مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»، والمراد أنه لا يحصل له ثواب أهل الرضا والإكرام.
وأخرج الحاكم بسند صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فيما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد»، والمنجم يدخل في اسم العراف أو هو في معناه، فإذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسؤول؟ فلا يصدق المسلم كاهناً ولا عرافاً ولا من يدَّعي شيئاً يخالف الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة.
المنجمون زعموا للمعتصم أن الزمان لا يوافق فتح عمورية لكنه لم يعبأ بترهاتهم وخرج وأكذب الله المنجمين
هذا من ناحية الشرع، أما من ناحية العقل فلنسأل المنجمين: لماذا لا تستطيعون التنبؤ بالأحداث المختلفة التي تصيبكم قبل وقوعها لتفاديها؟!
وفي المقابل، نختم بهذه الصورة الإيجابية في هذا الأمر؛ حيث زعم المنجمون أن الزمان لا يوافق فتح عمورية، وقالوا للمعتصم: إنهم يجدون في كتبهم أنها لا تفتح إلا في وقت نضج التين والعنب، ونصحوه بعدم الخروج للقتال، ولكنه لم يعبأ بترهاتهم، وخرج متوكلاً على رب العالمين، وأكذب الله المنجمين، وأعز الله المؤمنين، وكان أبو تمام في صحبة المعتصم وشهد الوقعة عام 223هـ، وخلّد الفتح بقصيدته العصماء التي يسخر فيها من المنجمين:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
_______________________________________
1- شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، 1418هـ، ص518.
2- عالم السحر والشعوذة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، 2002، ص292.
3- التنجيم بين العلم والدين والخرافة، عماد مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1998، ص22.
4- التنبؤ بالغيب قديماً وحديثاً، أحمد الشنتناوي، دار المعارف، مصر، 1959، ص84.
5-Astrology’s Influence in Three Modern Governments, Master thesis, University of Colorado, 1998, p112.