قبل نحو 10 سنوات، وفي أعقاب مؤتمر عن “الكارست” (المياه الجوفية) عقد في واحدة من جمهوريات يوغسلافيا السابقة، تلقيت عرضاً من زميل من سلوفاكيا لزيارة بلاده، وذلك بعد أن وقع بيننا تفاهم وتلاق في الأرواح.
كان زميلي الذي وجه لي الدعوة مؤمناً بعقيدة الشامانية، وكان في المرات التي التقينا فيها في غابات بلاده الجبلية يبدي للمظاهر الطبيعية طقوساً دينية تبدو بدائية وغرائبية ولا تتسق من حيث الظاهر مع مكانته العلمية.
ذات مرة وبينما يوصلني إلى المنحدرات الهينة من جبل تترا (Tatra) الواقع قرب الحدود البولندية، أخبرني أن بوسعي أن أفخر بذلك ذات يوم لأن هذا الجبل رمز لبلاده ومرسوم على واحدة من عملات الاتحاد الأوروبي.
وبينما يعرض زميلي الخرائط الرقمية للمنطقة بلغة علمية، إذ به يختم اللقاء بطقس شاماني جديد في واحدة من المتناقضات التي تجمعها ثقافتنا الشرقية.
هذا النوع من المتناقضات يلاحظه دوماً المراقب للمجتمعات التي أخذت شطراً من الحداثة والعصرنة مع الاحتفاظ بطقوس دينية تبدو غرائبية لغير العارفين بها.
في الهند مثلاً، تعرفت في مطار مومباي على أستاذ جامعي في علوم الفيزياء، كانت الظروف الجوية قد عطلت رحلاتنا فبقينا نتسامر 8 ساعات في كل شيء، ما أدهشني أنه قطع النقاش بعد عدة ساعات وأخرج من حقيبته تمثالاً صغيراً لأحد آلهة الهند ووضعه أمامه بكل وقار ثم تبتل إليه وأسدى إليه بعض صلوات خاشعة، وبعدها أعاد التمثال الصغير إلى مكانه ثم عاد يكمل حديثنا عن بحوثه العلمية.
في رحلة سلوفاكيا، وفي ختام الزيارة، أخذني زميلي الشاماني الكريم للتعرف على بقية أصدقائه في العاصمة “براتسلافا”، وكان من بينهم فتاة لطيفة أبدت شغفاً بمصر وسحرها، وتصادف أن جاء مكاننا على المائدة متقابلين وجهاً لوجه، وحين مر النادل علينا لنطلب المشروبات طلبت الفتاة الشقراء مشروباً كبيراً من البيرة، وحين بحثت في قائمة المطعم فلم أجد ما يناسبني سوى مشروب غازي أسود اللون، وهنا سألتني الفتاة: ألا تعرف أن هذا المشروب مضر جداً بصحتك؟ أليست البيرة أفيد لك؟!
ولأني أحب المنطق وأنفر من الجدال، فقد تمسكت باختياري مع التسليم لها تماماً بوجهة نظرها بأن هذا المشروب الغازي أسود اللون ضد الصحة وضار بها، بل وضرره يفوق البيرة على الأرجح.
مرت سنوات عديدة على هذا النقاش مع شقراء سلوفاكيا، لكنني تذكرتها وأنا أتجول في ميدان التحرير قبل يومين حين تعلقت عيناي بإعلان ضخم -بحجم السماء- لنجم الكرة المصري العالمي الشهير وهو يروج لذات المشروب الغازي أسود اللون المضر جداً بالصحة.
في هذا الإعلان يظهر النجم المصري العالمي في لقطة شهيرة يخرج لسانه ليغيظ به المنافسين مع عبارة “خليك عطشان”.
على بعد 10 أمتار وفي اتجاه نهر النيل قرب فندق شهير إعلان ضخم آخر –بحجم السماء أيضاً- لنفس النجم العالمي يروج لهاتف محمول غالي الثمن، ربما لا يستطيع الحصول عليه إلا أصحاب الدخول الفاخرة.
الإعلان موجه لكل الشباب الذين يتخذون النجم العالمي قدوة لهم بغض النظر عن مستويات دخولهم.
قد يبدو للبعض أن إعلان الهاتف المحمول الفاخر أقل ضرراً من إعلان المشروب الغازي الضار بالصحة، ولكني أرى أن النوعين لهما نفس الضرر؛ أحدهما ضرر صحي، والثاني ضرر اجتماعي-اقتصادي.
وملاحظتي هنا لا تتعلق بالإعلان في حد ذاته، نحن في مجتمع استهلاكي معولم ومنطقي أن نعيش فيه مع الإعلان بكل صوره وتجلياته المغرية، وكلنا يحمل هواتف غالية ويتناول مشروبات غازية من فترة لأخرى، لكن تحفظي على ربط استهلاك سلعة بعينها بالنجم العالمي الذي يتخذه الملايين قدوة لهم فيعتقدون أن الوصول إلى نجوميته قرين بشرب ذلك المشروب دون سواه، واقتناء ذلك الهاتف المحول دون غيره.
كنت قد عرضت قبل عامين مقالاً لقيام آخر رئيس للاتحاد السوفييتي (ميخائيل جورباتشوف) بترويج إعلان عن البيتزا التي كانت رمزاً للرأسمالية التي أطاحت بالاشتراكية السوفييتية، وكان الانتقاد الأفدح للرجل أنه يروج بعد خروجه من السلطة لرمز رأسمالي ضد اشتراكي، وكانت دفوع جورباتشوف والعارفين به أن الرجل خرج من السلطة مفلساً لا يجد ما يعيش منه فاضطر لعمل الإعلان.
ومن وجهة نظري، أن على اللاعبين الكبار أمثال النجم المصري العالمي -ولديهم من ثروة مالية فلكية ما يغنيهم- أن يتحروا نوعية المنتجات التي تستغل صورهم واسمهم، لأنهم في الحقيقة لا يدركون –بل يدركون!- حجم التلاعب بقيمتهم كقدوة للشباب.
وأتذكر حين ظهرت نتيجة الثانوية العامة قبل أشهر قليلة، اتصل أحد الشباب ببرنامج إذاعي وأعرب لمقدم البرنامج عن خيبة أمله لأنه لم يحقق أي مجموع يسمح له بدخول كلية جامعية، فما كان من الإعلامي إلا أن سارع مطمئناً له بالقول: “ولا يهمك، انظر إلى النجم المصري العالمي في كرة القدم، لم يحصل على تعليم جامعي وأصبح نجماً قد الدنيا، أنت كمان ممكن تبقى زيه وقد الدنيا”.
وإجابة هذا الإعلامي هي نوع آخر من نفاق رديء للجمهور من متابعي هذا البرنامج الإذاعي الذي يتكسب أيضاً من الإعلانات حتى لو روج لأفكار ضارة بالصحة، تماماً مثل المشروب الذي يروج له النجم الكبير وهو يخرج لسانه وبجواره عبارة “خليك عطشان”.
___________________________________
(*) أكاديمي مصري، والتدوينة من حسابه على “فيسبوك”.