“عُلا” تم اعتقال زوجها عام 2011 مع بدايات الثورة السورية، آخر مرة رأته في السجن كان عام 2015، بعدها انقطعت أخباره، أنفقت أموالها وباعت ذهبها جريًا وراء سماسرة الإدلاء بمعلومات عن المعتقلين، وبعد سنوات وفي عام 2018 أخبروها بوفاة زوجها وأعطوها شهادة الوفاة.
كان زوجها سائق حافلة نقل ركاب، وكانت تهمته تمويل الإرهاب! بعد اعتقاله انتقلت للعيش مع أهل زوجها، وخلال سنوات هاجر أهل زوجها واحدا تلو الآخر، فانتقلت للعيش في بيت عائلتها، وما إن استقر بها المقام حتى أصاب بيتهم برميل متفجر نجت من بين أنقاضه بأعجوبة، بينما مات معظم قاطني المنزل، فانتقلت على إثر ذلك للعيش في ضيافة أسرة دمشقية.
أصبحت على مشارف الأربعين من عمرها دون أن تُرزَق بأولاد من زوجها (المتوفى)، وصارت مجرد ضيفة في بيت غريب، ومع أول مُتقَدِم للزواج منها رحبَت وهي يحدوها الأمل في تحقيق حلمين: حلم سكن الزوجية، وحلم إنجاب الأولاد الذين حُرمت منهم في زواجها الأول.
تحقق الحلم الأول، أما الحلم الثاني فقد فات وقته؛ فقد أبلغها الطبيب أن سنها لم تعد تسمح لها بالحمل والإنجاب.
سمعت “علا” مثل كل السوريين عن مبادرة الرئيس للإفراج عن بعض المعتقلين، تلقت الخبر بفتور، وظلت في بيتها تتابع وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث نشر أهالي المعتقلين آلاف الصور لذويهم رجاء أن يتعرف عليهم الناس حال الإفراج عنهم، أو رجاء أن يتعرف المُفرَج عنهم عن أصحاب الصور، ويفيدوا أهاليهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة.
توافد الناس من أنحاء سوريا يحدوهم الأمل الذي لم يقطعه تطاول السنين في رؤية ذويهم، أو الوصول لأي معلومة عنهم، وانطلقوا بالآلاف تصديقا للشائعة المسربة بأن الحمولة البشرية من المعتقلين المُفرَج عنهم سيتم تفريغها تحت جسر الرئيس.
بدأت بالفعل سيارات السجن الكئيبة تتوافد على المكان، يشق سائقوها الصفوف متلذذين بمشهد الجماهير الوالهة وهي تلهث وراء السيارات، تحاول الجماهير استراق النظر من بين قضبان شبابيك سيارات السجن العالية، ولا يبدو من خلف قضبان شبابيكها أيدٍ ملوحة أو رقاب متطاولة؛ فحمولتها البشرية منهكة، لا تقوى على الوقوف، أو حتى مجرد التلويح بالأيدي.
بدأت السيارات تتعاقب وتفرغ حمولتها البشرية تحت جسر الرئيس؛ أجساد هزيلة، وجوه شاحبة، أعين زائغة، قوى خائرة، ينظرون لمن حولهم في ذهول، بعضهم تتلقفه الأحضان بعد أن تعرف عليه ذووه بصعوبة، وبعضهم تلاحقه الجماهير بصور أقاربهم الغائبين منذ سنين.
ما زالت “علا” تتابع المشهد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث إن الحدث لم تنقله شاشات الرئيس، ولا شاشات المقاومة والممانعة، ولم تهتم به القنوات العالمية التي تستنفر مراسليها لنقل أحداث إنقاذ قطة عالقة.
بعد أن كان الناس ينشرون صور ذويهم المعتقلين رجاء العثور عليهم، صاروا ينقلون صور المفرج عنهم؛ لأن معظمهم فَقَدَ ذاكرتَهُ، أو ذهب عَقله، ولا يدري أين هو، أو حتى مَن هو، والناس يتناقلون صورهم رجاء أن يتعرف عليهم ذووهم ويأتوا لتسلمهم.
وبينما تُقَلِب “علا” في الصور المنشورة للمفرج عنهم، وجدت شبحا لإنسان مُحَطَّم، دققت فيه النظر، وأعادت تدقيق النظر، ثم ظلت تردد بين نفسها في ذهول:
“إنه هو.. إنه هو.. لماذا إذن أعطوني له شهادة وفاة؟ وماذا أصنع الآن بعد أن تزوجت غيره، وبعد أن هاجر معظم أهله؟ يا رب يا منتقم يا جبار عليك بكل ظالم وكل من أيده ولو بشطر كلمة”.
وبينما هي غارقة في الحيرة، وتحاول مداراة مشاعرها، كان زوجها الجديد يتابع شاشات التليفزيون؛ فقد بدأ إعلام الرئيس في إذاعة بعض المشاهد، مع خلفية بالأغاني الوطنية، وإشادة بمبادرة الرئيس، وبعدل الرئيس وحنانه وعطفه على شعبه.
(ملاحظة: قصة علا قصة حقيقية، و”علا” اسم مستعار لصاحبة القصة وهي صَديقة للعائلة.
وهي واحدة من آلاف القصص المأساوية من مكان صغير في وطننا العربي، ومن تصاريف القدر أن يكون اسمه: تحت جسر الرئيس).