المتأمِّل في صفحات التاريخ الإسلامي -بنظرةٍ علميةٍ نقديةٍ- يدرك حقيقةً ناطقةً، وهي أنَّ الذي صنع الحضارة، وحافظ على حيوية الأمة لم تكنِ السلطة السياسية؛ فقد سجَّل التاريخ صفحاتٍ سوداء عن بعض أمرائها الذين كانوا أقربَ إلى الفساد والانحلال والدكتاتورية والمُلك العضوض، الذين لم يكونوا إلا متسلِّقين في مجدها وراكِبين لأمواجها ومقاومِين لتطوِّرها ومعاندين لحرِّيتها، وهي من المراحل الصَّارخة بالأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية بعد الخلافة الرَّاشدة، وهناك مفارقات بين هذا الخطِّ السِّياسي للسلطة والخط الإستراتيجي للمجتمع في ذلك التدافع الذي حفِظ وَهَج الحضارة رغم انحراف قيادتها السياسية.
ورغم تلك المظاهر المؤسفة لفساد الملوك والأمراء، كان تفاعل مجتمعي في عمق الأمة كان يحافظ على الأمل لترجيح كفَّة الفعل الحضاري على حساب الفساد السِّياسي؛ فكان المجتمع هو مَن يقف على ثغرة الهويَّةِ والقيم، وكان تأثير ما يُسمَّى الآن «المجتمع المدني» أقوى من تأثير الدولة في تنظيم الشُّعوب وتوجيه الأمَّة؛ إذ إنَّ صناعة الحضارة لم تُكتب صفحاتُها على يد الحكَّام بل بدأت فاعليتها في العمق؛ من تحرير الإنسان في ضميره وإرادته وفكره وسلوكه عبر الاجتهاد والإبداع والتجديد على مستوى المجتمع وليس على مستوى السُّلطة، إذ إنَّ محور التغيير الفعلي انطلق من ساحته الطبيعية، وهي النَّفس البشرية، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرَّعد: 11).
فلم تكن سطوة الدولة على الفرد بمثل ما انتهت إليه الحضارة الغربية المادية التي صاغت الحياة المعاصرة بتكريس هيمنة الدولة على الإنسان هيمنة مطلقة، بعد فشل الكنيسة في الحُكم وتنظيم المجتمع، فاستُبدِل القانون بالدِّين، ولم تصل إلى التوازن والتكامل بين وَازع الدّين ووَازِع القانون لضبط سلوك الإنسان، على قاعدة «إنَّ الله يزع بالسُّلطان ما لا يَزَع بالقرآن».
دور المجتمع المدني
صُنَّاع الحضارة والفاعلون الأساسيون فيها كُثر، إلا أنَّه في ظلِّ الحضارة الإسلامية لم يكن المركز القانوني للحاكم إلا وظيفةً نيابة عن الأمة، فهو مجردُ وكيلٍ عنها وخادمٍ لها وأجيرٍ لديها، فلا يملك السُّلطة المطلقة، ولا الإعفاء من المسؤولية، ولا الإفلات من المحاسبة، بل كان اختياره حرّاً وطاعته مشروطة ووظيفته محدَّدة وعزله ممكناً، وبالتالي لم تكن إرادة الأمة مشلولة أمامَه، فلم تسلّم له رقبتها ولم ترهن مصيرها بيده على حسابها، ولم تقايض أمنها واستقرارها على حساب شرعيته في الحكم عليها.
وحتى في لحظات الانفصال بين السِّياسة والحضارة، فرض واجبُ الوقت أن يتحمَّل المجتمع المدني عِبءَ الفاعلية الحضارية، وكان وَقُودَه العلماء والمفكِّرون والقضاة والمحتسِبون والمبدعون والأدباء والمثقفون، وغيرهم من صناع الرَّأي وأرباب التأثير في الواقع، الذين لا ينتظرون الإذن ولا الترخيص من الحاكم، وقد تجلَّت مظاهر ذلك في انتشار التعليم وسلطة الإفتاء ورسالية المساجد ومجالات الأوقاف ودور الزَّكاة ومظاهر التكافل الاجتماعي وتنوُّع أوجه التطوُّع، التي مثّلت صوراً مشرقة من روائع الحضارة الإسلامية، وجسَّدت كياناتٍ تعاونية مجتمعية مستقلة وفاعلة؛ إذ تحالف الحفظ الإلهي النَّظري للهوية والقيم في المجتمع بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحِجر: 9)، مع الحِفظ العملي لها عبر واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بواسطة العمل الجماعي والفعل الحضاري المنظَّم، كما قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104).
وكانت الحضارة الإسلامية تتقدَّم وتتوهَّج، مترجِمة قوَّة الإسلام وفاعليته عن طريق الحفاظ على الكلِّيات الكبرى والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، بحفظ الدِّين، والنَّفس، والعرض، والمال، والعقل.
وهي الحضارة التي تنْسَاب فيها العقيدةُ والشَّريعة كما ينساب الماء والدَّم، ويستيقظ العقلُ والضمير فيها كما يستيقظ الإنسان من النَّوم، وهي التي كانت تتنفَّس الإسلام؛ عقيدة وشريعة وأخلاقاً، ليستوعب الزَّمان والمكان والإنسان، بعيداً عن التجميد أو التمييع أو التجزيء.
وكانت هذه الحضارة أكثر توهُّجاً عندما تناغم الأمراء مع العلماء، وضُبط إيقاع الدَّولة بين العلم والدِّين وبين الشريعة والقانون، وتكامل الخطُّ السِّياسي للسلطة مع الخطِّ الإستراتيجي للمجتمع؛ فلم تقع حالة الصِّدام على مستوى دوائر الضمائر أو الإرادات أو السِّلاح، بحيث جنح الجميع إلى الشَّرعية السياسية للحاكم وإلى مشروعية الأداء السياسي والمجتمعي للجميع، ولم تقع الأمَّة ضحية هذا الصراع بين الفعل الحضاري للعلماء والصِّدام السِّياسي مع الحكَّام، وقد جاء في الحديث الشَّريف عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اثنَانِ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ؛ الْعُلَمَاءُ وَالأُمَرَاء».
الخطر الحقيقي
الخطر الحقيقي في سقوط الحضارة لا يكون في فساد الأمراء فقط، بل يكون أيضاً في سقوط العلماء والمفكِّرين والنُّخب، عندما يتوقَّف واجب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويُغلق باب الاجتهاد، وتُعطَّل سُنَّة التجديد، ويتوقف امتداد الإبداع، ويُرتَهن العقل إلى التقليد والتقاليد، وتُحتَلُّ النَّفوس بالشُّبهات والشَّهوات، وتُغتال ضمائر الناس وتُصادر إرادة الأمَّة.
وبالتالي، فقد كانت هناك قوَّةٌ مدنية فاعلة وقوةٌ سياسية حاكمة، ومهما انحرفت السلطة السياسية فقد كانت القوَّة المدنية هي الضَّامنة لاستمرارية الأمَّة وفاعليتها الحضارية، وقد تطوَّر مفهوم هذه السلطة المدنية إلى مفهوم المجتمع المدني في العصر الحديث، وهو المؤسسات غير الرَّسمية والمنظمات غير الحكومية والهيئات غير الرِّبحية، وهي القوَّة الحيَّة المبادِرة إلى النَّفع العام في إطار العمل المؤسَّسي التطوُّعي بالإرادة الحرَّة، كقطاعٍ ثالثٍ بين القطاع العام والقطاع الخاص، وكحلقة وسيطة بين المجتمع والدولة، وهي لا تمارس دور التَّخفيف من حالة العجز والفراغ فيهما، بل ترتقي إلى المواجهة الحضارية للأنظمة الشُّمولية؛ الدِّينية أو العسكرية، فهي الصِّيغةُ العقلانية والمتطوِّرة لتنظيم المجتمع وضمان فاعليته بعيداً عن الهيمنة المطلقة للدولة، إذ تمارس الديمقراطية التشاركية، وتفرض الرَّقابة المجتمعية والشَّعبية، وتتمرَّد –بسلمية– على المركزية الطَّاغية للسلطة السياسية المطلقة.
هذه الثنائية المعاصرة بين المجتمع المدني والدولة عرفت عصوراً زاهية في ظلِّ الحضارة الإسلامية بين ثنائية الأمَّة والخلافة، فانتصرت فيها الفاعلية الحضارية للمجتمع على حساب الفساد السِّياسي للحكَّام.
إنَّ الشُّعوب العربية التي تشتكي اليوم من حالة اليأس من التغيير، ومن واقع الشَّلل الإرادي، ومن تعثُّر الدورة الحضارية للأمَّة دائماً ما تُصدِّر أسباب فشلها وتُعلِّق مشجب عجزها على الأنظمة السياسية -وهي بلا شكٍّ تتحمَّل جزءاً كبيراً من المسؤولية في ذلك- إلا أنَّ عجز الشّعوب عن تأطير نفسها وعن هيكلة ذاتها وعن حراكها المجتمعي وعن اهتمامها بالشَّأن العام وعن انخراطها في الفاعلية الحضارية الحقيقية يجعلها تبيع ضميرَها وترْهنُ إرادَتها وتسلِّم رقبتَها للأنظمة السياسية الفاشلة والفاسدة، فلا تنتج إلا حُكَّاماً على قاعدة «كما تكونون يُولّى عليكم»، ولا تُساق إلاَّ كقطيع على مذابح الشَّرف على قاعدة «النّاس على دين مُلُوكهم».