في كلّ يومٍ يقف عند كشكه الصغير؛ ليلقي عليه تحية الصباح، ويأخذ صحيفته المفضلة، ويدفع ثمنها، وينطلق، ولكنّه لا يحظى إطلاقًا بردٍّ من البائع على تلك التحية، وفي كلّ صباحٍ أيضًا يقف بجواره شخصٌ آخر يأخذ صحيفته المفضلة، ويدفع ثمنها، ولكن صاحبنا لا يسمع صوتًا لذلك الرجل، وتكررت اللقاءات أمام الكشك بين الشخصين. كلٌّ يأخذ صحيفته اليومية ويمضي في طريقه، وظنّ صاحبنا أنّ الشخص الآخر أبكم لا يتكلم، إلى أن جاء اليوم الذي وجد ذلك الأبكم يربت على كتفه، ويتكلم متسائلاً: لماذا تلقي التحية على صاحب الكشك؟ فلقد تابعتك طوال الأسابيع الماضية، وكنتُ في معظم الأيام ألتقيك، وأنت تشتري صحيفتك اليومية.
فقال الرجل: وما الغضاضة في أن أُلقي عليه التحية؟ فقال: وهل سمعتَ منه ردًّا طوال تلك المدة؟ فقال صاحبنا: لا، قال: إذن لِمَ تلقي التحية على رجلٍ لا يردّها؟ فسأله صاحبنا: وما السبب في أنّه لا يردّ التحية في رأيك؟ فقال: أعتقد أنّه – بلا شك- رجلٌ قليل الأدب، ولا يستحق أن تلقي عليه التحية. فقال صاحبنا: إذن هو في رأيك قليل الأدب؟ قال: نعم قال صاحبنا: هل تريدني أن أتعلم منه قلة الأدب، أم أعلّمه الأدب؟ فسكت الرجل؛ لهول الصدمة.
كيف أصبحتَ كيف أمسيتَ *** ممّا يغرس الودّ في فؤاد الكريم
الحياة لا تسير على وتيرةٍ واحدةٍ، ومن الطبيعي أن يحدث سوء تفاهم وخلافات ومشكلات بين النّاس، فيجب ألا ننسى عند حدوث أي مشكلةٍ خلق الأدب واللباقة، وحسن التصرف، وآداب التحدث، والتعامل مع الآخرين.
وقولوا للنّاس حسنًا
معالجة أخلاق النّاس من الشداد الصعاب، ولا تصلح المعيشة إلاّ باستعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق، وهذه المنزلة حقيقتها هي، منزلة الإحسان إلى النّاس، وكفّ الأذى عنهم واحتمال أذاهم والصبر على سوء خلقهم، والتواصي بالحق والصبر معهم، وحمل كَلّهم وضعيفهم، وإعانتهم على نوائب الحياة، وبالجملة هي: أن يكون العبد أبدًا في أمر غيره، فالمتكبر على إخوانه يحتقر نفسه وهو لا يعلم، والمتكبر على النّاس يدفن نفسه بينهم بيده وهو يعلم.
فلا يغرنّك من يتواضع بلسانه وبانحناء ظهره وانخفاض رأسه؛ فقد يكون من أشد النّاس كبرًا وغرورًا، جربه إذا شئت بالمساس قليلاً بكبريائه؛ ينكشف لك أمره في الحال.
ينسى صنائعه والله يظهرها *** إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم *** وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
يقول ابن القيم عن ابن تيمية: “ما رأيتُ أحدًا قطُّ أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددتُ أنّي لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه”!!
ويقول عنه: “وما رأيته يدعو على أحدٍ من خصومه وأعدائه قط، وكان يدعو لهم”.
وقال: “وجئتُ يومًا مبشّرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدّهم عداوةً وأذىً له، فنهرني وتنكّر لي واسترجع، ثمّ قام من فوره إلى بيتِ أهله فعزّاهم، وقال: إنّي لكم مكانه ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسرّوا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه”.
حُكي أنّ رجلاً تزوج بامرأةٍ، فلمّا دخلت عليه، رأى بها الجدري في وجهها وجسدها، فقال لها بعد فترةٍ من الدخول بها: اشتكيتُ عيني، ثم قال لها: لقد عميتُ، فلا أبصر شيئًا، فبعد عشرين سنة، ماتت المرأة، ولم تعلم أنّه بصيرٌ، وكانت تظنّ طيلة تلك السنوات أنّ ما ادعاه من ذهاب البصر حقيقة، ولم تدر أنّ ما به من ضر ولا علة، فقيل له في ذلك: لم فعلتَ هذا؟ فقال: كرهتُ أن يحزنها رؤيتي لما بها.
تلذُّ له المروءة وهي تؤذي *** ومن يعشق يلذُّ له الغرام
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه *** ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
وإذا الفتى جمع المروءة والتقى*** وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل
فهذا هو الخُلق، الذي فقده كثيرٌ من النّاس، “إنّ العبد ليبلغ بحسن الخلق عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنّه لضعيفٌ في العبادة” فسوء الخلق، سيئةٌ لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحُسن الخلق، حسنةٌ لا تضر معها كثرة السيئات، ففي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
“خيركم من يُرجى خيره، ويؤمن شرّه، وشركم من لا يُرجى خيره ولا يؤمن شره”، “من كان سهلاً هيّنًا ليّنًا، حرّمه الله على النّار”.
لن يدرك المجدَ أقوامٌ وإن كرموا *** حــتــى يــذلّـــوا وإن عزّوا لأقوامٍ
ويُشتموا فترى الألوان مسفرةً *** لا صفح ذلٍّ ولكن صفح أحلامِ
فالمؤمنون هيِّنون لينون، كالجمل الأنِفِ، إن قِيد انقاد، وإذا أُنيخ على صخرةٍ استناخ.
قال الأحنف بن قيس: “وجدتُ الحلم أنصرُ لي من الرجال، فقال له رجلٌ: علّمني الحلم يا أبا بحر، فقال: هو الذلُّ يا ابن أخي، أتصبر عليه؟ ومن عجيب خبره أنّ رجلاً شتمه، وجعل يتبعه حتى بلغ حيّه، فقال الأحنف: “يا هذا، إن كان بقي في نفسك شيءٌ فهاته وانصرف؛ لا يسمعك بعضُ سفهائنا فتلقى ما تكره”، أي نفسٍ حييةٍ هذه، أيُ جود خلقٍ هذا؟!
فمن لم يصبر على كلمةٍ، سمع كلمات، وربّ غيظٍ قد تجرعته؛ مخافة ما هو أشدُّ منه.
وقولوا للنّاس حُسنًا!!
________________________________________
(*) عميد كلية العلوم الوقفية بالمملكة العربية السعودية.