“حماس” بين خيارين أحلاهم مر؛ إما القطيعة مع نظام الأسد وإيران و”حزب الله” بعد ذلك وخسران المكتسبات المادية والعسكرية، وإما إقامة تلك العلاقة وخسارة البعد الأخلاقي والشعبي كحركة تحرر وطني من نير الاحتلال، لكن إلى أي من الخيارين سوف تنحاز “حماس”؟ وما انعكاسات قرارها على مستقبلها السياسي في المنطقة؟ وكيف ستبرر قرارها شعبياً؟
لماذا كانت العلاقة بين “حماس” ونظام الأسد؟
نبدأ الحديث عن علاقة نظام الأسد مع حركة “حماس” منذ عام 2000م، ونتجاوز العلاقات السابقة التي لم تكن مؤثرة في المشهد قبل ذلك التي كانت زيارات ومجاملات ووساطات لم يترتب عليها واقع عملي ملموس، ففي عام 1999م وبعد إبعاد قادة “حماس” في المكتب السياسي من الأردن إلى قطر، بدأت الحركة بالبحث عن العودة إلى بلاد الطوق للقضية الفلسطينية، فرحب نظام الأسد باستضافة جميع قيادات “حماس” وأجهزتها على الأراضي السورية، وقد كان لنظام الأسد عدة أهداف من تلك العلاقة.
– كان الأسد يريد باستضافة “حماس” أن يبعد عن نظامه أي شبهة لكونه نظاماً طائفياً، فاستضافة حركة “حماس” السُّنية التي تتزعم محاربة دولة الاحتلال أكبر رسالة سياسية يوجهها بهذا الخصوص إلى الداخل السوري والمحيط العربي.
– أراد نظام الأسد أن يجمع أكبر أوراق قوة في يده في تحسين شروط التفاوض مع الكيان الصهيوني، وتعظيم مكتسباته في المفاوضات في أي عملية سلام قادمة، بعد تعثر محادثات السلام بين سورية والكيان الصهيوني في منتصف تسعينيات القرن الماضي.
– وجود “حماس” على الأراضي السورية يعزز رواية النظام السوري الذي يقدم نفسه في المنطقة كمناوئ للمشروع الأمريكي الصهيوني والداعم للقضية الفلسطينية، وهي الشرعية التي أراد لها أن تترسخ في الداخل السوري كنظام عروبي مقاوم لمشروع الهيمنة الأمريكية الصهيونية، فهي رسالة للداخل قبل الخارج.
– وبدرجة أقل تبريد معركة النظام مع جماعة الإخوان السوريين التي تشكل له صداعاً خارجياً منذ عام 1982م، إذ إن “حماس” تنتمي لذات التنظيم الإخواني وترك الباب موارباً لأي مصالحات أو رسائل بين النظام والحركة تقوم بها “حماس” وقت تعرض النظام لضغوط دولية.
بنفس الوقت أرادت “حماس” هذه العلاقة لعدة أسباب:
– أن يبقى المكتب السياسي مقيماً في دول الطوق للأراضي الفلسطينية.
– الدعم المادي والعسكري الكبير الذي تلقته “حماس” من النظام السوري الذي لم تحصل عليه في أي بلد عربي باستثناء ما كان يقدم لهم من “حزب لله” كفصيل لبناني عربي.
– استجابة للطلب الإيراني باعتباره من أكبر الداعمين لحركة “حماس” في المال والسلاح وبشكل معلن، وهذا الذي لم تعلنه أي دولة غير إيران.
– المساهمة في تشكيل وتقوية تحالف إيران سورية كحلف مناوئ للمشروع الغربي في المنطقة بمواجهة تحالف ما كان يعرف بدول الاعتدال العربي مع اختلاف أهداف كل طرف من أطراف هذا التحالف في الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من هذا التحالف، فـ”حماس” تريد التحرر الوطني، وإيران تريد أن يتمدد مشروعها الإقليمي، وسورية تريد جمع مزيد من أوراق القوة في سياستها الخارجية.
بدأت العلاقة تأخذ شكل التحالف الرئيس الوثيق بين “حماس” ونظام الأسد في عام 2001م وانتقال معظم قيادات “حماس” إلى دمشق ليصبح خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، من أكثر الشخصيات قرباً من الرئيس السوري لتفتح المخيمات الفلسطينية أمام حركة “حماس” كساحة يتحركون فيها بلا قيود.
الموقف من الثورة السورية والقطيعة
ما أن اندلعت الثورة السورية في مارس 2011م حتى وجدت قيادة “حماس” نفسها في حرج كبير من الثورة السورية، خاصة أن مكتسبات “حماس” السياسية والعسكرية كانت كبيرة في سورية التي تضم أكثر من 600 ألف لاجئ سوري.
إذ مرت العلاقة على أعتاب الثورة وما بعد اندلاعها بعدة مراحل، إذ حاول خالد مشعل، وحسن نصر الله، بعد الثورتين التونسية والمصرية أن يقطعوا أي محاولة للثورة في سورية من خلال حث الرئيس السوري على إجراء إصلاحات سياسية حقيقية، إلا أن نظام الأسد كان يرى أن رياح الثورات العربية بمنأى عن النظام السوري.
في يناير 2012م، حمّل الأمين العام لجامعة الدول العربية خالد مشعل رسالة لنظام الأسد بضرورة تعاون سورية مع بعثة جامعة الدول العربية لمراقبة التزام نظام الأسد بوقف العنف وتنفيذ التزاماته بإيجاد حل سياسي للمسألة السورية.
بعد ذلك بدأت “حماس” بالترتيب للخروج من سورية، وألغى خالد مشعل لقاءً كان محدداً مع الرئيس السوري بعد أن رأى أن اللقاء لن يفيد في حل القضية السورية، وكانت قيادة “حماس” قد خططت لمغادرة الأراضي السورية، وبدأت تنتقل إلى القاهرة قبل أن يحدث الانقلاب.
في فبراير 2012م، حيّا إسماعيل هنية، مسؤول “حماس” في قطاع غزة في حينها، الشعب السوري في أثناء كلمة ألقاها في الجامع الأزهر التي فهم منها أن هناك موقفاً أصبح معلناً لـ”حماس” من الثورة السورية، وأن “حماس” بدأت تخرج عن صمتها من الثورة السورية.
وفي ديسمبر 2012م، رفع خالد مشعل علم الثورة السورية في غزة باحتفالية مضي 25 عاماً على تأسيس “حماس”؛ مما اعتبر موقفاً واضحاً وصريحاً من الثورة السورية لـ”حماس”، واعتبر مشعل بعد ذلك أنه من حق الشعب السوري المطالبة بحريته بشكل سلمي.
في مقابل تلك المواقف المنحازة للثورة، كان النظام يتخذ مواقف أكثر عدائية من الحركة ومواقفها وتصريحاتها، إذ وصف “التلفزيون السوري”، في أكتوبر 2012م، خالد مشعل بالمقاوم المشرد واليتيم الذي كان يبحث عن ملجأ يؤويه قبل أن تفتح دمشق أبوابها له، ثم شن الأسد هجوماً على “حماس”، في عام 2015م، بأنها كانت تدعم جبهة النصرة والإخوان المسلمين في سورية، واستمر هجوم الأسد على “حماس”، في عام 2016م، قائلاً: إنه كان يدعم “حماس” كفصيل مقاوم، لكنهم أثبتوا أنهم “إخونجية”، ويبقى الإخواني إرهابياً ومنافقاً، على حد وصفه.
في عام 2019م، وبعد أن بدأت المعركة في سورية تحسم لصالح نظام الأسد، بدأ الحديث عن وساطة لعودة العلاقات بين “حماس” والنظام السوري، وجاءت التصريحات على لسان الزهار الذي صرح أنه “من مصلحة المقاومة أن تكون هناك علاقات جيدة مع جميع الدول التي تعادي “إسرائيل” ولديها موقف واضح وصريح من الاحتلال مثل سورية ولبنان وإيران، في الوقت الذي تؤيّد فيه بعض الدول الخليجية “إسرائيل”، إنهم كانوا يتحركون في سورية كما لو كانوا في فلسطين، وفجأة انهارت العلاقة على خلفية الأزمة السورية، معتبراً أنه كان من الأولى ألا تترك “حماس” (بشار) الأسد، وألا تدخل معه أو ضده في مجريات الأزمة”.
لماذا عودة العلاقات الآن؟
حسمت “حماس” أمرها بعودة العلاقات مع النظام السوري بعد قطيعة دامت 10 سنوات، إذ نقلت وكالة “رويترز”، عن مصدرين اثنين، أن “حماس” قررت استئناف علاقاتها مع سورية، وأن “حماس” اتخذت قراراً بالإجماع لإعادة العلاقة مع سورية، وأن الطرفين عقدا لقاءات على مستويات قيادية عليا لتحقيق ذلك، لكن لماذا الآن تعود العلاقات؟
بواعث سورية من إعادة العلاقات
– فشل جميع المحاولات السورية لعودة شغل مقعدها في جامعة الدول العربية، إذ صرح مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية أن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية يحتاج إلى توافق عربي، وهذا غير متاح الآن.
– ضغوط إيرانية على نظام الأسد التي قدمت له الدعم اللامتناهي لقمع الثورة، والتي أصبحت صاحبة اليد الطولى والنفوذ الكبير في الأراضي السورية خاصة بعد انشغال الروس في الحرب الأوكرانية.
– حاجة نظام الأسد لإعادة ترتيب صورته الداخلية من خلال إعادة احتضان “حماس” الحركة السُّنية الدينية المقاومة للاحتلال الفلسطيني ليتخلص من وصمة الطائفية التي التصقت به بعد الثورة السورية المقموعة.
بواعث “حماس” من إعادة العلاقات
– التضييق العربي الكبير على “حماس” خاصة بعد التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة والتقارب المصري القطري، وبذات الوقت التحولات والاستدارات السياسية الكبيرة في السياسة التركية الخارجية، لتجد “حماس” أن الحضن السوري هو الأكثر أماناً وأهمية لتحقيق مصالح الحركة العسكرية والسياسية.
– الضغوطات الإيرانية على “حماس” لتكوين تحالف متماسك تقوده في المنطقة، إذ إنها من أكبر الداعمين لـ”حماس”، وخصوصاً “كتائب القسام” التي تعلن الشكر الدائم لإيران على مواقفها من القضية الفلسطينية.
– انحسار موجة “الربيع العربي” وخسارة التيارات الإسلامية معظم المواقع في بلاد الثورات العربية؛ مما جعل “حماس” تضطر إلى العودة إلى الحضن السوري مجدداً الذي لم يعد أحد يتحدث عن رحيله.
بواعث إيران من إعادة العلاقات
– إيران تحتاج أن تقوي نظام الأسد في الداخل من خلال احتضان “حماس” وتصرف الأنظار في الشأن السوري إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية يجمع عليها جميع الداخل السوري.
– تحتاج إيران إلى احتضان “حماس” في العمق السوري للتخلص من وصمة الطائفية التي تورطت فيها بعد الثورة السورية والحرب في اليمن والظهور بمظهر قائد المشروع المقاوم للنفوذ الأمريكي لا قائد مشروع طائفي في المنطقة.
– تقوية حركة “حماس” التي تشاغل المشروع الصهيوني في الداخل حتى لا يتمدد أكثر في المنطقة.
– زيادة أوراق القوة في يدها وتوظيفها في صراعها من المشروع الصهيوني الأمريكي والتركي في المنطقة، في لعبة تصارع المشاريع منذ الحرب على العراق في عام 2003م.
تدرك “حماس” وإيران ونظام الأسد أن طبيعة العلاقة بينهم علاقة تكتيك ومصالح سياسية كبيرة فرضتها الظروف السياسية في المنطقة بعيداً عن المواقف الأيديولوجية، إلا أن “حماس” تبدو بين حجري الرحى، فإما مصالحها السياسية والمالية والعسكرية المؤقتة، وإما تمسكها بالبعد الأخلاقي باعتبارها حركة تحرر شعبي من الاستعمار عليها الانحياز لمبادئ الحرية والتحرر ومصالح الشعوب، لكن يبدو أن “حماس” تراهن على أن ذاكرة الشعوب العربية السُّنية سوف تنسى تلك المواقف عند أول حرب تنشب بين “حماس” والكيان الصهيوني، وأن حجم التضحيات الحمساوية ستكون كفيلة بإنهاء الجدل حول تلك المواقف التكتيكية أو حتى تبريرها وإيجاد الأعذار لها، قد تكون تقديرات “حماس” في غير مكانها، حيث تقف الشعوب العربية المتعاطفة مع الشعب السوري من “حماس” نفس الموقف من “حزب الله” بعد الأزمة السورية حتى مع اختلاف البعد الطائفي، فللشعوب بوصلة سياسية حساسة لا تهضم التكتيك السياسي وتقلباته وتناقضاته بسهولة.
بلا شك أيضاً أن إعادة العلاقات بين “حماس” ونظام الأسد سوف تنعكس على بيت “حماس” الداخلي، وستكون الكلمة العليا داخل الحركة للسنوار، والزهار، وقيادة الداخل في غزة، كما سيشهد التنظيم الإخواني على مستوى العالم تباين مواقف حاداً في هذا الملف.