يقول الفيلسوف الشهير «فولتير»: «هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكومٌ عليهم بإعادته»، ولا شك أن هناك نقاطاً مضيئة في التاريخ الإسلامي والعربي لا تغيب عن الذاكرة، ولا نكف عن تناولها، لكن التاريخ يحوي كذلك مناطق مظلمة؛ لم تَحظَ بهذا الذكر والتفاعل رغم ما بها من مآسٍ وجراح.
لقد تجاهل العرب محنة زنجبار، في حين جعل اليهود من «الهولوكوست» واقعة لا مهرب منها، فكتبوا فيها بإسراف حتى أحصوا 6 آلاف كتاب سنوياً، وأعَدّوا قوائم بالمطلوبين من النازية لجرائمهم بحق اليهود، على عكس العرب مع حكاية زنجبار.. إننا نقف أمام حكاية منسيّة.
فما هي «أندلس أفريقيا»؟ وكيف أقام المسلمون بها حضارة عريقة؟ وكيف تمت إبادة العرب والمسلمين من الجزيرة الشرق أفريقية؟ وما حال زنجبار الآن بعد هذا التاريخ الدامي؟
شهدت جزيرة زنجبار، الواقعة في شرق القارة الأفريقية، حضارة إسلامية زاخرة ونهضة اقتصادية على يد العرب، جعلتها «أندلس أفريقيا»، كما شهدت واحدة من أكبر المذابح التاريخية للمسلمين؛ لا تقل وطأة عن مذابح الأندلس.
كانت زنجبار في أوائل القرن السادس عشر تحت سيطرة الإمبراطورية البرتغالية، لمدة قرنين من الزمان، وأدى خنق التجارة وإنشاء المستعمرات التجارية على الساحل الزنجباري من قِبل البرتغاليين إلى قيام النُّخب الزنجبارية بدعوة العُمانيين لمساعدتهم في طرد البرتغاليين.
وعليه سيطرت سلطنة عُمان على زنجبار بحلول أواخر القرن السابع عشر، وأتى التجار من السَّلطنة للاستقرار في زنجبار في القرن التاسع عشر، وتم في هذه الفترة تأسيس النظام الاجتماعي الذي حَكم زنجبار، وبدأ حُكم السلالات العمانية منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعداً، حين بدأ العديد من العُمانيين بالاستقرار والتزاوج مع السكان المحليين.
وأصبح الازدهار الاقتصادي لكل من زنجبار وجزر بيمبا متشابكاً في إنتاج القرنفل، حيث تم جلب أشجار القرنفل الأولى إلى زنجبار من قبل أول حاكم لسلطنة عُمان، السلطان سيد سعيد، الذي نقل بلاطه من مسقط إلى زنجبار في عام 1828م، وشجع زراعة القرنفل وحوّل زنجبار إلى أحد أهم المراكز التجارية في أفريقيا؛ فقامت عُمان بتطوير التجارة والاقتصاد في الجزيرة، عن طريق الرحلات التجارية المستمرة بينها وبين الهند والخليج العربي؛ وخصوصاً العراق وإيران.
واستمرت تجارة التوابل في الازدهار، واشتهرت زنجبار بالثروة والمكانة، وأطلق عليها «جزيرة التوابل»، كما سُميت بـ«بستان أفريقيا»، وذلك للتطور الضخم في المحاصيل؛ فكانت مصدر العالم للقرنفل والثوم، كما اشتهرت في ذلك الوقت بصناعة العاج من أنياب الفيلة.
إنهاء الحُـكم العربي
وظلت زنجبار تنعم بالاستقرار إلى أن بدأت سلسلة الغارات الأوروبية للتدافع على أفريقيا، حيث وصل النفوذ الاستعماري البريطاني إلى زنجبار في عام 1890م، وأصبحت بحلول منتصف القرن العشرين محمية بريطانية.
ورغم أن السلالة العُمانية الباقية أضحت تحت السيطرة البريطانية إدارياً، فإن الحكم البريطاني في زنجبار لم يُوفِر أي آلية موثوقة لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، وظلت الأرض والثروة والسلطة في أيدي العرب، إلى جانب طبقة التجار الآسيويين.
ولضمان استمرارية التواجد في زنجبار، دعمت بريطانيا فكرة «القومية الأفريقية»، وكثفت التوترات العرقية في زنجبار، وعمدت إلى فكرة التفريق بين المسلمين من أصل أفريقي والمسلمين من أصل عربي، وبدأت بذلك شرارة لسياسة طويلة الأمد تهدف إلى إقصاء المسلمين العرب من الساحل الأفريقي بيد الأفارقة أنفسهم!
وعندما تم تأسيس الدوائر السياسية في زنجبار في عام 1961م، نشأت الأحزاب على أسس عرقية، أبرزها: حزب زنجبار القومي بقيادة العرب، والحزب الأفروشيرازي الذي يهيمن عليه الأفارقة.
وفي عام 1963م، تم استقلال زنجبار عن بريطانيا، وأصبحت مَلكِية دستورية، يحكمها السلطان جمشيد بن عبدالله، وظل العرب على رأس السلطة بالفوز في الانتخابات النيابيّة؛ لبقاء الاعتقاد الشعبي المترسخ بأن زنجبار امتداد لسلطنة عُمان العربية الإسلامية، لا للقارة الأفريقية.
ونظراً لفَشَل حزب أفروشيرازي في الانتخابات، واستمرار سيطرة العرب على الجزيرة بسبب حنكتهم في إدارة البلاد وتحكمهم في التجارة؛ أشعلت بريطانيا الفتنة داخل زنجبار، وعمدت إلى إقناع أفارقة زنجبار أن العرب سوف يستعبدونهم؛ لخوفها من سيطرة عُمان على الجزيرة الإستراتيجية.
وبدأت فصول المجزرة التاريخية بحق العرب عام 1964م، على يد حزب أفروشيرازي وأتباعه، الذين كانوا من سكان زنجبار الأصليين، بتحريض من بريطانيا.
وفي صباح يوم 12 يناير 1964م، تفجرت انتفاضة مسلحة بقيادة الطاغية «عبيد كرومي»، قِيل عنها ثورة زنجبار؛ التي تريد تغيير النظام الاجتماعي الذي اضطهد الأفارقة لسنوات، لكن ما حدث في أعقاب هذه الثورة كان انتقاماً دموياً ضد السكان العرب والمسلمين في زنجبار، بعد سنوات من الدعاية العنصرية، وذلك بالاستعانة بالأوغندي المسيحي «جون أوكيلو»، عضو حزب أفروشيرازي، الذي قام بتجنيد 600 مرتزق لاحتلال مراكز الشرطة وسرقة الأسلحة، وتلقى الدعم من تنجانيقا (تنزانيا حالياً) وبريطانيا حتى أطاح بالسلطان جمشيد بن عبدالله وحكومته.
وسيطر خلال 6 ساعات على كل مفاصل الجزيرة، ثم بدأ «أوكيلو» بتطهير عرقي ممنهج ضد العرب والسكان الأفارقة المسلمين، راح ضحيتها أكثر من 20 ألف مسلم، إضافة إلى أعمال الاغتصاب والنهب والاستيلاء على أراضي وممتلكات المسلمين، وتم تنصيب «عبيد كرومي» رئيساً للدولة الجديدة.
بعد الاستيلاء على زنجبار، ألغيت نتيجة الانتخابات، وفر آخر سلطان عربي «جمشيد» إلى خارج البلاد، وتم الإعلان عن اتحاد فيدرالي بين أرخبيل زنجبار وتنجانيقا، لتتشكل منهما ما يعرف الآن بدولة تنزانيا، وعاصمتها دار السلام.
وقام القس النصراني «جوليوس نيريري» بتولي الحكم في تنزانيا بدعم من الغرب، وألغى الكثير من الشعائر الدينية الإسلامية في زنجبار، وأخذ يقلد كمال أتاتورك في إزالة الصبغة الإسلامية عن زنجبار.
وقد تم تصوير بعض المشاهد الحية للتطهير العرقي للعرب في زنجبار بواسطة «التلفزيون الإيطالي»، في الوثائقي «وداعاً أفريقيا» عام 1966م، وعَرَض الوثائقي مجزرة زنجبار ضمن الفظاعات الأفريقية التي وقعت بعد استقلال بلدان القارة، ويرى المُشاهد على الطبيعة كيف كان يُساق العرب قتلاً على الهوية، والمقابر الجماعية التي ضمت رفاتهم.
بثورة عام 1964م تكون «القومية الأفريقية الجامعة» غَلَبت «الوطنية الأفريقية الزنجبارية»، فالقومية الأفريقية الجامعة تعتقد بأن «أفريقيا للأفريقيين»، والمفهوم من الأفريقيين أنهم السود الأصل وما عداهم ممن جاؤوها من أصقاع مختلفة من العالم محض غزاة؛ فالعرب في رأي هذه القومية غزاة، والتخلص من وجودهم الثقيل مكسب قومي لا مذمة.
كما أن قائد الثورة «جون أوكيلو» أفريقي ولكنه ليس زنجبارياً، وقد جاء الجزيرة في عام 1959م، ضمن الأفارقة الذين اجتذبهم سوق العمل في زنجبار.
زنجبار إسلامية
وهكذا أسقط «أوكيلو» -الأجنبي عن زنجبار- سلطاناً من الجيل الرابع في الجزيرة، كانت له الولاية على شعب مسلم بصورة كاملة، وقد عمّقت الهوية الإسلامية لزنجبار من غُربة قائد هذه الثورة عن الوطن الزنجباري؛ الذي اصطحب عقيدته المسيحية في ثورته ضد العرب المسلمين.
والغريب أن «الوطنية الزنجبارية» لم تستسلم لغزوة «أوكيلو» الثورية؛ فكان أول عمل لـ«كرومي» بعد تعيينه رئيساً لمجلس قيادة الثورة بواسطة «أوكيلو» أن يتخلص من «أوكيلو» نفسه كغريب زنيم، وقد نجح في مسعاه خلال 50 يوماً.
كان من المتوقع أن تتحول زنجبار، بعد هذه الإبادة الجماعية للمسلمين، إلى جزيرة مسيحية أو شيوعية، خاصة بعد إسدال ستار النسيان على هذه المجزرة، لكن ما حدث كان العكس! ولم تظفر بريطانيا وأعوانها بمرادهم.
فأمام هذا التجاهل الإعلامي الغربي والعربي، أبى مسلمو زنجبار إلا أن يكون لهم وجود في الإقليم الذي تبلغ نسبة المسلمين فيه حالياً أكثر من 98% من إجمالي السكان، وتتميز زنجبار حتى الآن بمعالم تاريخية عربية، وملامح إسلامية الطابع؛ فالبيوت والقصور التي بناها العرب العُمانيون، والمساجد التي تمثل مذاهب إسلامية متعددة، جعلت السياحة المورد الاقتصادي الأول في زنجبار إلى الآن.
وقد أصبحت زنجبار جزءاً من تنزانيا، إلا أنها تتمتع بالاستقلالية السياسية وكذلك الدينية، حيث ينقسم الهيكل السياسي لتنزانيا إلى السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، ولزنجبار أيضاً سلطات منفصلة ومستقلة تتمثل في السلطة التنفيذية ومجلس النواب والسلطة القضائية، التي تعمل بتناسق داخل هيكل اتحاد، وتربطها بتنزانيا علاقات مستقرة إلى حد كبير، وتعايش سلمي بين جميع الطوائف والديانات والأجناس.
كما ترعرعت جهود الصحوة الإسلامية في زنجبار؛ من إرشاد ووعظ وكفالة للأيتام ومعونات للفقراء والمحتاجين، وبدت مظاهرها في تزايد أعداد المتردّدين على المساجد وعدد مرتديات الحجاب، ويمكن القول: إن زنجبار العربية الإسلامية ما زالت قائمة بصبر وصمود أهلها الأصليين، وإن الإسلام لا يزال مغروساً فيها رغم الهجمة الصليبية الشرسة.
وختاماً، قد تتعدد الروايات عن ثورة زنجبار، لكن الواضح والأكيد أن العرب تركوا بصمات واضحة وصبغة إسلامية لم يستطع الاحتلال البريطاني ولا الحركة الأفريقية الجامعة ولا أصحاب الفكر الماركسي محوها رغم سفك الدماء.
وهنا اختلفت أندلس أفريقيا عن أندلس أوروبا!