قبيل فجر الجمعة، جاء المخاض لتقترب ساعات الميلاد أكثر فأكثر؛ فقد جاءت مع إشراقة شمس النهار، لتعلن معها ميلاد ميسرة الذي امتزجت مشاعر عائلته بكثير من الفرح والدموع وسجود الحمد والشكر لله رب العالمين.
فكان هذا المولود عبارة عن حياة جديدة لعائلته المثقل قلبها بوجع الفراق بعد استشهاد عمه ميسرة العرعير الذي حمل نفس اسمه تيمناً به، بعد أن استهدفته صواريخ الاحتلال عام 2021؛ أي أن الميلاد والاستشهاد كان الفارق الزمني بينهما عاماً واحداً.
هذا الميلاد فتح خيوط الذاكرة لعائلته في الحديث عن الشهيد ميسرة الذي كان له حضور كبير في فعل الخير وحلقات التحفيظ للقرآن الكريم في مسجد التوفيق.
ميسرة “المرضي”
لقد حاز ميسرة بكل جدارة على لقب “المرضي” من والديه؛ فكان يحرص على طاعتهما حتى في اختيار مجال الدراسة الجامعية في كلية التمريض التي كان ينتظر والداه تخرجه فيها.
لكن ميسرة لن يستطيع هذه المرة تحقيق حلمهما بأن يقف على منصة حفل التخرج ويشير بتحية لوالديه وهو يحمل الشهادة؛ فقد كانت صواريخ الاحتلال أسبق من فصل التخرج الأخير له.
وكان ميسرة قبل استشهاده قدم امتحاناً للاختبارات النصفية للفصل الأخير الذي كان يفصله عن تخرجه في كلية التمريض، وظهرت النتيجة بعد استشهاده، فكتب أستاذ المادة في كشف الدرجات بجوار اسمه “الفردوس الأعلى”.
طاعة والديه
وتذكر شقيقته ملاك (24 عاماً) التي كانت ترتبط به ارتباطاً كبيراً، خاصة أنه “آخر العنقود”، لـ”المجتمع”، أن شقيقها كان يحرص على طاعة والديه؛ فكان بعد الجامعة إما أن يكون مشغولاً في حلقة تحفيظ القرآن، أو مساعدة والده في العمل بالصيدلية.
ومن المواقف الحنونة التي تذكرها حينما كان يقوم الليل؛ فكان يرتل القرآن بصوت عذب، لكنه كان يخشى أن يزعج والديه؛ فكان يسأل شقيقته: “هل صوتي عالٍ؟ أخشى أن أزعج والديَّ وهما نائمان”.
وكانت كلمة “سامحيني” هي الكلمة الدارجة على لسانه كلما طلب من شقيقته شيئاً، فكان يقول لها: “سامحيني غلّبتك معي”.
ومن المواقف التي ما زالت تذكرها حينما كان يريد أن يدعو أصدقاءه إلى الطعام؛ فكانت والدته وشقيقته ترغبان في إعداد بعض المأكولات، لكن لم يكن يرغب أن يتعبهما فيعمل على شراء طعام جاهز ويطلب من شقيقته أن تعد لهم العصير والسلطات، ورغم هذا الطلب البسيط فإنه كان يردد: “سامحيني يختي غلّبتك”.
القلب الحنون
وحينما كان يعود من البيت حتى وإن كان متعبًا كان يغسل ملابسه بنفسه، ويعد الطعام بنفسه حتى لا يتعب والدته أو حتى شقيقته، وإذا سألته شقيقته: “لِمَ لمْ تطلب مني أن أفعل ذلك؟”، لتكون الإجابة مباشرة: “ما بدي أغلبك يختي”.
وتضيف، في حديثها وهي تحن لشقيقها كثيرًا: “لا يخرج إلى مكان إلا قبل عودته إلى المنزل يتصل بي ويسألني: ملاك شو أجبلك معي؟ حتى في يوم استشهاده؛ فكان لا بد أن يحضر لي الشوكولاتة والأشياء اللذيذة نتناولها معًا في المساء”.
وتقول: “لا بد من كل ليلة حتى وإن جاء إلى البيت متعبًا أن يجلس معي ونتبادل معاً بعض الأحاديث؛ فقد كان حنونًا جدًا”.
حب الطاعة
وكان ميسرة يحرص كثيرًا على صيام يومي الإثنين والخميس؛ فكان يعد السحور له ولوالديه، وحنانه لم يكن على عائلته فقط؛ بل كذلك على الأطفال، حيث تذكر ملاك أنه قبل استشهاده بأيام قليلة حيث كان القصف شديداً في حي الشجاعية، وكان الأطفال خائفين فكان يلتف حولهم ويهدئ منهم ويحتضنهم ويلاعبهم.
ومن المواقف الحاضرة لميسرة وما زالت العبارة تحتفظ بها شقيقته التي كان يرددها ويتأملها ميسرة: “في الجنة تنتهي الغربة، ويلتقي الأحبة، وتطيب الجراح، ويهون ما قدمته في سبيل الله، ويأتيك ما تريد طوعًا، وزيادة على ذلك النظر لوجه ربك الكريم”؛ حيث كان كثيراً ما يسأل الله تعالى أن يرزقه الشهادة، وقد رزقه الله تعالى بها بالطريقة التي سأله بها، وكان صائماً في يوم استشهاده.
التقى الأحبة
وكما اشتاقت عائلته لميسرة كذلك اشتاقت حلقات تحفيظ القرآن الكريم إلى الصوت الندي للشهيد ميسرة؛ فكان يقضي ساعات طويلة محببة إلى قلبه في مسجد التوفيق، فكان يسمي حلقة التحفيظ باسم “محمد” تيمنًا باسم شقيقه الشهيد الذي سبقه في الشهادة منذ 14 عامًا، ليخرج أجيالاً حافظة لكتاب الله تعالى.
وتقول أخته: “عندما استشهد ميسرة وجدت وجه الشبه الكبير بينه وبين شقيقي محمد، في تلك اللحظة استوعبت أن الشهداء يتشابهون في الصفات”.
واستشهاد ميسرة ما كان إلا حكاية النصر التي تؤمن بها غزة، وتثق بوعد الله تعالى ونصره المبين؛ فإن استشهد ميسرة فقد ولد ميسرة آخر؛ ليكمل المسير؛ فتوالي أسماء الشهداء ما هو إلا تتابع حكاية إعداد الأجيال في معركة تحرير فلسطين.