منذ العام 1930م وكأس العالم لكرة القدم يُقام كل 4 سنوات، بطولة تسترعي الانتباه، ويتابعها قرابة 5 مليارات إنسان، وسيحضرها ما يزيد على مليون مشجع، في قطر، الدولة المضيفة لـ»كأس العالم 2022»؛ وهو ما يطرح تساؤلات حول إمكانية الاستفادة من الفعالية في الدعوة، وهل يمكن اعتبارها فرصة لإيضاح الصورة المشرقة للإسلام؟
مع قرب انطلاق بطولة «كأس العالم 2022»، نشطت مقالات غربية لتشويه فضائل الإسلام وأخلاقه، من خلال تساؤلات حول كيفية التعامل مع المشجعين، وهناك منهم الشاذ ومن يشرب الخمر، وأكدت المقالات أن رأي الإسلام واضح في رفضه لهذه الممارسات، لكن النظرة العميقة لهذه الهجمة، حملت عرضاً لموقف الإسلام الأخلاقي وقيمه الراقية في رفض كل ما يسيء إلى العقل وإلى الكرامة، ولعل هذا يذكر بالمقولة القديمة: «إذا أراد الله نشر فضيلة سلط عليها لسان حسود».
يفرض الإسلام على أتباعه أن يستثمروا كل فرصة لتبليغ دينهم، لكن يسبق هذا التبليغ؛ ممارسة وإثماراً، السعي لتصحيح الصورة الذهنية السلبية عن الإسلام، وإزالة العوائق التي تحول بين الناس واستقبال الرسالة أو الإيمان بها، وربما تكون الرياضة إحدى الإستراتيجيات الدعوية الفعالة، بعدما بات لاعبو الكرة وأبطال الرياضة قادة للرأي، يتخطى تأثيرهم حيزهم الجغرافي إلى النطاق العالمي.
الدعوة والتجمعات الإنسانية
تعد التجمعات البشرية الكبيرة فرصة لتبليغ الإسلام، وهو مسلك متبع في السيرة النبوية، فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرت مصادر السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ العام الرابع من البعثة كان يستثمر موسم الحج، الذي يجتمع فيه وفود من قبائل العرب جميعاً، للتواصل معهم، وعرض الإسلام عليهم، واستمر على تلك الحال 7 سنوات، فكان صلى الله عليه وسلم يزور تلك القبائل في مضاربها، ويقول لهم: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به».
تفرض هذه الحقيقة على الدعاة ضرورة إزالة بعض الالتباسات والتصورات السلبية التي تمنع التواصل مع المختلفين دينياً وحضارياً وعرقياً، والانطلاق من رؤية الإسلام الأصيلة في أن البشر أصلهم واحد، وهو آدم عليه السلام، وأن الإسلام يقدر الاختلاف، ويحترمه، وأنه دين رحمة ومودة، وذلك للتواصل مع المشجعين القادمين.
والواقع أن كأس العالم فرصة للحوار الإنساني والحضاري، ووسيلة لإعادة طرح الإسلام مرة أخرى على الناس جميعاً، من خلال حوار وتواصل إنساني فعَّال يُلغي الصور النمطية عن المسلمين، فهناك قواسم مشتركة، مثل وجود معايير متفق عليها في المنافسة والإنصاف والتحكيم، وأن الكفاءة والمساواة هي القادرة على حسم التنافس، ووجود مثل هذه الأسس المحترمة من الجميع يخلق فضاء للتواصل الحضاري الرحب بين الناس، من المفترض الانطلاق منه للحوار، وخلق أرضيات للتفاهم، واستثمار ذلك في تقديم صورة للإسلام إنسانية وحضارية وعصرية.
ضرورات للتواصل
هناك حديث أن الرياضة قد تصبح إحدى أدوات القوة الناعمة للدعوة، والقوة الناعمة، هي: «القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجاذبية، بدلاً من الإرغام أو دفع المال»، وهذا يفرض أولاً أن يعرف الدعاة ماذا يريدون من هذا الحدث الكبير، وأن يتوفر لديهم إدراك بأن الحصول عليه لا يأتي إلا من خلال الجاذبية وامتلاك ما يحفز الآخرين على الاقتراب، ثم استثمار ذلك لتغيير الصورة الذهنية للمتلقي، ويفرض ذلك:
إحياء أخلاق الإسلام في التعامل مع الوفود القادمة، من صفات الكرم العربية في حسن الاستقبال والضيافة، فتلك الأخلاق أصبحت نادرة، لكنها قادرة على أسْر الآخرين، وإزالة ركام العداوة من القلوب، والمدخل الإنساني أولى خطواته حسن الاستقبال وبشاشة اللقاء وتوفير الأمن، ويذكرني ذلك بمقولة للأديب جبران خليل: «لولا الضيوف لكانت البيوت قبوراً».
وتلك الأخلاق قادرة على النفاذ لأعماق الأعداء، ففي فترة الحروب الصليبية، ذكر الرحالة الألماني «بورشارد»، في كتابه «وصف الأرض المقدسة»، أثناء رحلته في القرن الثالث عشر الميلادي عن العرب والمسلمين الذين التقاهم، فقال: «وهم مضيافون جداً وكرماء ولطفاء ممتازون»، وهي معلومات كتبها بعد معايشة في الأرض المقدسة في فلسطين طيلة 10 سنوات، وفي المقابل انتقد من هم على دينه وملته فقال: «وللحقيقة، فإن رجالنا اللاتين هم الأسوأ من جميع أهل الأرض، هم يعيشون في الأراضي المقدسة بأقدام ملوثة تدنس المقدسات»؛ وهو ما يعني أن التواصل الإنساني المباشر قد يبدد الصور الجامدة.
هذا الأمر يفرض على المسلمين أن يقدموا صورة جيدة وغير مشوهة عن أنفسهم ودينهم، صورة مشرقة تكون قادرة على محو ما كرسته «الإسلاموفوبيا» خلال عقود طويلة، وهناك نتذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الناس صنفان؛ إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، فالآخر «ليس جحيماً» كما زعم المفكر الفرنسي «بول سارتر»، ولكن الآخر في الرؤية الإسلامية هو أمة الدعوة، وأفق المسلم مفتوح ورحب في التعامل مع الآخرين، فهؤلاء لهم حق على المسلمين لتعريفهم بالإسلام، وتحقيق عالمية الإسلام تكون بالتبليغ وليس بالإكراه.
ومن الضروري أن يكون التسامح موجوداً، والنظر إلى الآخر ليس على أنه تهديد، بل فرصة لإثراء الذات، وفي ظل عالم يزداد تنوعاً وتداخلاً تصبح من مهام الدعوة الإسلامية التسامح والاستيعاب والبحث عن مشتركات للتعايش كبديل للصراع، فأجواء التعاون هي الأرض الخصبة لحركة الإسلام.
ونشير هنا إلى دراستين مهمتين؛ الأولى: أجراها باحثون في جامعة «ستنانفورد» الأمريكية وصدرت عام 2019م، وخلصت إلى أن جرائم الكراهية ضد الإسلام والمسلمين انخفضت بنسبة 18.9% بعد انضمام لاعب الكرة المصري محمد صلاح إلى نادي «ليفربول» عام 2017م، كما أن نصف التغريد المعادي للإسلام من قبل مشجعي النادي انخفض بعد تألق صلاح، وألمحت الدراسة إلى أن السبب هو زيادة الإلمام بالإسلام، فـصلاح استطاع إزالة حواجز نفسية، ونجح في إيجاد تصدعات في «الإسلاموفوبيا».
وفي دراسة أخرى نشرتها المجلة الأمريكية للعلوم السياسية في يونيو 2021م، أكدت أن جرائم الكراهية في جميع أنحاء بريطانيا انخفضت بنسبة 16% بعد انضمام صلاح لنادي «ليفربول»، وأن الـ16 مليون تغريدة لمشجعي النادي انخفض فيها العداء ضد إلى الإسلام إلى النصف، وإن إبراز صلاح لهويته الإسلامية ساهم في خلق صورة إيجابية عن الإسلام، حيث انتقلت مشاعر مشجعي «ليفربول» الإيجابية من صلاح إلى الإسلام والمسلمين وخفضت التعصب.
ونستطيع أن نقول: إن كأس العالم فرصة دعوية قد تساهم في تقديم الكثير للإسلام، من خلال تحطيم الكثير من الحواجز النفسية في نفوس وعقول الكثير من المشجعين والمشاهدين، إذا تم إحسان استثمارها، لتبقى الدعوة من خلال الرياضة مجالاً رحباً للإسلام.