لم يكن الاسترهاب من أجل الحكم والاستيلاء على السلطة وليد هذه العصور والأزمان، بل كان موجوداً منذ القدم، فهذا فرعون رمز الطغيان والاستبداد استعمل الاسترهاب لإرهاب الناس واقتيادهم، والتسلط عليهم، من أجل ضمان استمرار حكمه وطغيانه، وعندما تصدى له نبي الله موسى عليه السلام بمفهوم مخالف لما زرعه في قلوب الناس كانت النتيجة أن ظهر زيفه وبيان للناس مبدأ تخويفه، حيث إنه تهاوى حكمه في أول لحظة فعل حقيقية منسلخة من الترهيب والاسترهاب، قال تعالى لنبي الله موسى: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69)، وبالتالي في لحظة فارقة انتصرت الحقيقة على الاسترهاب التخويفي غير الحقيقي.
وفي هذا الموضع، ذكر بعض المفسرين سر صناعتهم هذه، كما عند محمد رشيد رضا، رحمه الله، في «تفسير المنار» عندما اعتبر أن ذلك كله صناعة مبنية على الحيلة الصناعية؛ كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك، أو يجعل العصي والحبال على صورة الحيات، وتحريكها بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين، وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتسمى «السيمياء».
هكذا نرى عبر التاريخ الماضي والحاضر أن الشعوب في أغلب الأحيان تقتاد بالخوف والتخويف المبني على الاسترهاب، الأمر الذي نراه يتساقط عند أول فعل حقيقي تُقْدِم عليه الشعوب الثائرة، لتسقط هذه الأوهام من وجدانها، وعقلها، وتتغلب عليها بالفعل والإرادة، والأمثلة على ذلك كثيرة معايشة، ففي لحظة فارقة استطاعت شعوب كثيرة التغلب على هذه الأوهام البوليسية، والقبضة الأمنية التخويفية عندما قابلتها بالحقيقة والفعل، وعندما انتزعت كذلك جلباب الاسترهاب الذي أُلبس لها من قبل تلك الأنظمة عملاً وفكراً.
وأما في العصر الحديث، فإن الاسترهاب السياسي يعتبر من أكثر أنواع الاسترهاب انتشاراً في العالم، بكل أشكاله وصوره، لفرض متغيرات إقليمية ودولية بحسب الحاجة، والمآل المرجو والمتوقع، سواء هذا الاسترهاب الناتج عن كيانات عالمية مجتمعة، أو عن طريق دول كبرى منفردة لتحقيق سياساتها وتوجهاتها الدولية، وفي آخر السلسلة يكون الاسترهاب المجتمعي، الذي عادة ما يكون موجهاً للدول التي يراد اقتيادها من أعلى الهرم إلى أسفله.
كما أن الطابع السياسي للاسترهاب الحديث يعود عادة إلى الباعث والهدف السياسي الذي من أجله وجد، الذي يرتكز على سببين رئيسين، هما:
الأول: النظام السياسي العالمي الذي يمارس دور العصا والجلاد في كثير من الأحيان، بل وفي كل القضايا العالمية، وذلك بتسلط الدول الكبرى على الدول الصغرى واسترهابها سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وصولاً إلى مرحلة متطورة تصل فيها إلى الاسترهاب المجتمعي بأدوات غير تقليدية.
الثاني: أسباب سياسية داخلية؛ المتمثلة في الإرهاب الداخلي الذي يكون ناتجاً عن طريق الظلم والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة السياسية داخل دولها، وكياناتها السياسية، ومؤسساتها السيادية، ومن ثَمَّ يدب إلى المستويات الأدنى، وصولاً إلى الأفراد والمجتمعات، لتؤسس حالة من الاسترهاب السياسي المجتمعي.
ومن هذا المنطلق، فإنه لا مناص من القول: إن تاريخ الشعوب والأمم على المدى البعيد والقريب عايشت الاسترهاب في كثير من أعمارها، خاصة في مراحل نشوئها الأولى، باعتبار أن الأمثلة والشواهد الدالة على ذلك كثيرة لا يمكن إحصاؤها أو استقراؤها استقراء تاماً، خاصة تلك التي عايشت حقباً متتالية من الظلم والاستبداد، سواء من قبل من يملكون زمام السلطة فيها، أو حتى من قبل الأنظمة العالمية المتداخلة في دول الشعوب المختلفة، الأمر الذي يزال إلى يومنا هذا يلقي بظلاله على كثير من الأنظمة، خاصة العربية والأفريقية، حتى صار منهجاً متبعاً تتغلب عليه الشعوب وتثور ضده تارة، وتركن إليه تارة أخرى بفعل قوة خارجة عن إرادتها، ولكن في آخر المطاف؛ فإن هذا الاسترهاب السياسي ستثور عليه الشعوب والأنظمة معاً في بلدان كثيرة، خاصة تلك التي بلغ فيها الاضطهاد مبلغه، استبداداً وظلماً، ولعلّ ذلك سيكون من أسفل الهرم إلى أعلاه من الجانبين المجتمعي والدولي.
________________________________________
(*) كاتب ليبي، أستاذ الحديث وفقهه.