كتب الله تعالى الصوم على عباده وقرن الأمر ببيان علته، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
والتقوى في حقيقتها حمل النفس على التزام منهج الله تعالى في حلاله وحرامه، ولأن النفس البشرية ليست متمحضة للخير، بل فيها استعداد للخير والشر، فإن حملها على الخير وتجنيبها دواعي هلاكها في الآخرة أمر ليس باليسير، بل يحتاج مجاهدة وصبراً قد يَعِزّان عن الإدراك إذا لم يلجم الإنسان نفسه بوسائل تربوية معينة.
والصوم الحق يوفر وسيلة معينة ناجعة لمن أراد أن يمسك بزمام نفسه، فهو يأتي على خلاف المنهج العام الأصلي الثابت شرعاً الذي يقرر:
– إباحة الزينة التي أخرج الله لعباده والطيبات من الرزق، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32).
– وأن تحريم ما أحل الله، أخذاً للنفس بالشدة على سبيل القربى، اعتداء شرعي لا يجوز لمسلم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة: 87).
والصوم استثناء من هذا العموم، ففيه يحرم الله علينا الطيبات بعض الوقت؛ تدريباً لأنفسنا على التحكم في رغباتنا وشهواتنا، حتى نكون نحن من يسوسها، نشبعها نعم، لكن بقدر مقدور، لا ننسق خلفها ولا نركض في إشباعها بصورة تغلبنا على الآخرة فنكون فريسة سهلة للشياطين، فالإنسان إن تحكمت فيه رغبته وهواه لا شك سيقدم على ما حرم الله عليه، وسيتهاون شيئاً فشيئاً حتى تهلكه نفسه.
وهذه طريقة مادية للتدريب على ضبط النفس في الجانب المادي المحسوس.
ثم تأتي مطالبة الشرع للمسلم أن يتمثل هذا التدريب في الجانب المادي فيصبغ به الجوانب المعنوية من حياته، فيترك الرفث والفسوق، ويدع قول الزور والعمل به، ويتعالى على غرائزه النفسية كما تعالى على غرائزه الحسية من طعام وشراب ونساء، فيقاوم غريزة الانتقام والانتصار للنفس، ويعتصم بصيامه من مجاراة أهل السوء، قال صلى الله عليه وسلم: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ» (متفق عليه عن أبي هريرة).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمارة تحقق الفائدة المرجوة من الصوم، وأخبر جازماً أن من لم يتمثل هذا الجانب المعنوي فليس لله تعالى حاجة في ترك المحسوسات من طعام وشراب ونساء؛ لأن التدريب على المحسوسات غرضه الأسمى ضبط النفس في المعنويات، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» (أخرجه البخاري وأصحاب السنن عن أبي هريرة).
ثم يكتمل التدريب بما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكليفات زائدة عن العادة في غير رمضان، فهناك صلاة التراويح التي يستحب فيها ختم القرآن، وإنها لصلاة طويلة تخالف ما اعتاده المسلم طول عامه، وهناك سُنة ختم القرآن تسميعاً من الحفظ -وذلك للحفاظ- مرة أو مرتين كل رمضان، وغير الحفاظ لهم أن يقرؤوا من المصحف مرتين أو مرتين، ومن زاد ففضل الله أكبر.
وذلك -في نظري- اكتمال لمنظومة التدريب بالمنع من شهوات معتادة وتحمل تكليفات فوق العادة، مما يضاعف أثر التدريب، فما يهدمه المسلم من أثر النفس يرفع به في الوقت نفسه أثر الطاعة.
ومما يزيد التدريب حبكة وأثراً أنْ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام السحور عبادة مأجورة، وجعل للإفطار آداباً متبعة، فانتقل الأمر من مجرد غريزة عادية إلى عبادة وقربى، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ» (البخاري عن سهل بن سعد)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً» (متفق عليه عن أنس بن مالك)، وقال: «إنَّ اللهَ وملائكتَه يُصَلُّونَ على المتسحِّرينَ» (ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن عبدالله بن عمر).
ذلك ليعلم المسلم أن حياته كلها -حتى غرائزه- يجب أن تنضبط بضابط الشرع، فيتمكن في نفسه معنى الإسلام بكمال الاستسلام لله رب العالمين، ويُفيدَ من رمضان منهجاً يسير عليه عامه كله.
وبهذا يحقق المرء غاية ما فرض عليه ربه، فيحقق الله له وعده فيكفر عنه ذنوب ما بين رمضان إلى رمضان، ويرفعه كل عام إلى مقام أعلى في جنته.
جعلنا الله وإياكم ممن قامه وصامه إيماناً واحتساباً.