يُعدُّ صيامُ المسلمين، خصوصًا صيام شهر رمضان، مدرسةً قويمةً في السلوك والانضباط، وترقّي الشخصية المسلمة إلى درجات الكمال.
فإذا كانت «التربية» هي «المعاناة» كما عرّفها البعض، أو كما عرّفها آخرون بأنها «عملية بناء الفرد على الأسس الإيجابية للوصول به إلى مرحلة النضج»، فإن الصوم، تأسيسًا على ذلك، منهج تربوي شامل متكامل.
وثمة معالم لذلك المنهج تتبدّى في:
1- التربية على الإخلاص والصدق مع الله:
فلا عمل يراقب فيه المسلمُ ربَّه مثل الصيام؛ إذ هو رهنٌ لضميره، ليس عليه سوى الله شاهدٌ، إنه عملٌ قلبيٌّ مداره على التقوى واستشعار معية الله ووحدانيته؛ ما جعله يحظى -دونًا عن سائر التكاليف والعبادات- بتمييز الله تعالى له، كما جاء في الخبر المروي عن الله تعالى: «كلُّ عملِ ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (رواه مسلم).
2- محضنٌ تربويٌّ يحققُ الإيمانَ والتصالحَ مع الله:
فإن الله عز وجل فرض الصومَ علينا وعلى مَنْ قبلنا لأجل التقوى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)؛ أي لنخشاه سبحانه ونطيعه ونتصالح معه؛ بتطهير النفس مما علق بها من المفسدات، وتحصينها من المغريات، فجُعل الصوم وسيلة لتحريرها من قيودها، وتطهيرها من أرجاسها فهي متحولةٌ بإذن الله وبأثر هذا الصيام من السلبية إلى الإيجابية، ومن القعود إلى الحركة، ومن التفريط إلى الاعتدال والتوازن؛ حتى تصير نفسًا هادئة مشرقة ذات شعور دفّاق وعاطفة جياشة.
3- غرس القيم والمعاني الربّانية في نفوس الصائمين:
يترقّى الصائم روحيًّا من خلال أوراده التعبدية التي تترتب على صومه؛ فتنطبع في نفسه قيمٌ ومعانٍ ربّانية جليلة وسلوكيات طاهرة طيبة، فيعتاد البذل والتضحية في سبيل الله، وتضعف في داخله النمطية، وينكسر سلطان العادة، ويتحقق نموذج الشخصية المسلمة الفريدة، البعيدة عن التفريط والركود والجمود، أو الغُلوّ والإفراط والشطط، وإن سلوك الامتناع في الصوم هو في حقيقته تربية على جهاد النفس، ولا يكون جهادُ عدوٍ إلا إذا سبقه هذا الجهاد، جهادُ النفسِ، بإعدادها الإعداد الوافي واستكمال جهوزيتها.
4- كبح جماح الشهوة والرغبة والهوى:
تتولّد لدى الصائم القدرة على الامتناع عما لم يستطع الانفطام عنه في غير وقت الصوم؛ ما يعدُّ انتصارًا فارقًا على النفس، وتذليلًا لها حتى انقادت فصارت تقبل ما لم تقبله سابقًا، وهو ما يعتبره اختصاصيو علم النفس مَعْلَمًا من معالم المنهج التربوي الإسلامي في تقوية الإرادة؛ بالتخلّي عن الرذائل، والتحلّي بالفضائل، واتّباع مسالك الصالحين.
في الصيام يكون التغيير والتعديل والتحسين، وتصحيح المفاهيم، وكفّ النفس عن دنايا الأمور؛ وذلك يثمر ضبطًا والتزامًا واعيين، وتهذيبًا في السلوك، وتربية على العفو والصفح والمسامحة؛ «الصيام جُنّة، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم» (رواه البخاري).
5- تقويم نفسي وسلوكي:
وإن ما يفعله الصيام لا يفعله غيره من العلاجات القديمة والحديثة في مجال المرض النفسي والاضطراب السلوكي؛ فما يتطلبه من صبر يعد دواء داعمًا للثبات الانفعالي، ومهدئًا ومرخيًا للأعصاب، يساعد على الاستقرار العاطفي، ويقوّي الضمير الداخلي، أما مجاهدة النفس فتنفع في مواجهة الحالات النفسية المؤلمة، وهو علاج ناجع للغضب وسوء الخلق، وبه يكون الاجتماع وتمتنع العزلة التي هي سبب لكثير من حالات الاكتئاب والاضطرابات الأخرى.
6- اعتياد الترشيد والاقتصاد والطهر والعفاف:
من بين صفات وأخلاق رشيدة لا تُحصى يعتادها الصائم؛ صفة العفّة وهي التحرز من الوقوع في منكر يشينه، والمروءة والترفّع عما يحيك في صدره ويخشى اطلاع الناس عليه، وهذه الصفة نتاج المراقبة والإخلاص وأن الصيام سرٌّ بين العبد وربه، ويعتاد الصائم أيضًا الترشيد والاقتصاد؛ ما يفيده في نواح أخرى في حياته تستدعي هذا الاقتصاد ولا تستصعبه، بل تكون هذه الفكرة مُسْتهدَفًا يمكن تطبيقه على مستوى الوطن والأمة التي هي في أمسِّ الحاجة إلى الاقتصاد كيلا تكون عالة على غيرها.
7- إنسانية الصائم:
يستشعر الصائم حال الفقراء، ويقدِّر معاناتهم الدائمة، فالصيام جعله رحيمًا بهم، مشفقًا عليهم، مرهف الحسِّ عطوفًا، عظيم المواساة، ولو كان ممن أثّر فيهم الصوم لأخرج من نفسه ما بقي فيها من قذر الشح والإمساك والتقتير، ولصار زاهدًا عالمًا بقيمة النعم وفضل المنعم سبحانه.
8- الصيام والقرآن قرناء جميعًا:
قرنَ الله تعالى في كتابه الكريم الصيامَ بالقرآن؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، ومعلومٌ فضل هذا الكتاب في هداية تاليه، وزيادة الإيمان في قلب كل متدبر له عامل به؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2)، وهو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، يهديهم للتي هي أقوم، ويبشّرهم بالأجر الكبير؛ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82)، (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الإسراء: 9)، فاللهم اجعلنا ممن ربَّاهم القرآن وهذّبهم الصيام، وأَجِرْنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة يا كريم.
________________
(*) كاتب وباحث مصري.