إن النفس في أساس خلقتها تكون مفطورة على طباع وأهواء منها المحمود والمذموم، وفي رحلتها في الحياة تتبدل بها الأحوال والظروف؛ فتؤثر على تلك الطباع والأهواء بالسلب والإيجاب.
فقد تكون في النفس خفة وطيش، لكن الزمن والتجارب يعملان على صقل النفس فتنضج ويعتدل مزاجها إلى الرزانة والتروي والأناة، وقد تضغط عليها الحياة بصعابها وأزماتها وفتنها فتفقد اتزانها وتنحدر في مهاوي الجهل والهوى.. وهذا يعني أن التغيير واقع بالنفس لا محالة؛ إن خيرًا، وإن شرًّا.
وهذا التغيير قد لا نشعر به، ونظن أننا على أصل وضعنا وخلقتنا، وهذا أمر مجافٍ للواقع والحقيقة، والأدهى من ذلك عندما تطالب أحدًا بتغيير نفسه للأحسن والأفضل، فيتعلل بأنه لا يستطيع ذلك، وأنه مجبول عما هو عليه، وأن طباعه تأبى التغيير والتبديل، ويستشهد بقول الشاعر:
يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم وتأبى الطباع على الناقل
وهذا من باب الضعف النفسي والعجز، وفقدان الإرادة، وعدم الرغبة في بذل المجهود للتغيير، قال النَّبِيُّ ﷺ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ»(1).
وقد أكَّد رسول الله ﷺ قابلية النفس للتغيير عندما قال: «إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحِلم بالتحلُّم، مَن يَتحرَّ الخير يُعْطَه، ومَن يتقِّ الشرَّ يُوقَه..»(2).
قال المناوي: «وإنما الحلم بالتحلم»، أي: ببعث النفس وتنشيطها إليه(3).
وإمكانية تغيير الطباع والجِبلَّات لا يختص به البشر وحدهم؛ إذا يتشارك معهم باقي المخلوقات؛ وقد ألمح إلى ذلك حجة الإسلام الغزالي بقوله: «لقد ظنَّ بعض المائلين إلى البطالة أن الخُلق كالخَلق، فلا يقبل التغيير، وظنَّ أن المطمع في تغيير الخُلُق، طمع في تغيير خَلْق الله، وإن ذلك لو لم يكن ممكنًا لما أمر به، ولو امتُنِع ذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب؛ فإن الأفعال نتائج الأخلاق.
بل كيف يُنكر تهذيب الإنسان مع استيلاء عقله، وتغيير خُلُق البهائم ممكن؛ إذ ينتقل الصيد(4) من التوحش إلى التأنس، والكلب من الأكل إلى التأدب، والفرس من الجماح إلى السلاسة»(5).
وجهاد النفس لتقويمها وتطويعها وإقامتها على الجادة جهاد عظيم، لا يتوقف ما دام النَّفَس يتردد في صدر صاحبه، وإن قدرتك على تغيير العالم تبدأ من قدرتك على تغيير نفسك؛ لذا قال الأستاذ البنا: «ميدانكم الأول أنفسكم فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها ولا تيأسوا، وراقبوا الله في كل حركة وسكون فمن كان مع الله كان الله معه»(6).
فالتغيير الحقيقي في أصله عملية داخلية، ومحاولة التغيير المفروض من الخارج لن تؤتي ثمارها إلا إذا تم الإيمان به، والواقع يتغير للأفضل أو للأسوأ تبعًا لتغير النفس للخير أو للشر؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، قال الماوردي مبينًا معنى هذا التغيير بأنه «يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من معصية، والثاني: لا يغير ما بهم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة»(7)، فلو تغيرت النفس واتجهت للمعصية بدَّل الله حال الواقع إلى شر حال، وإن تغيرت واتجهت للطاعة بدَّل الله الواقع إلى خير حال.
والنفس تتلون وتتشرب بما تداوم على مدها به؛ فإن كنت تمدها دائمًا بالطاعة تلذذت بها وترقت بها في مراقي الكمال، والعكس صحيح، قال ﷺ عن القلب المصفح: «أَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ»(8).
ثم إن الرياضة الروحية والمجاهدة والعزيمة الداخلية والبيئة المعينة على التغيير للأفضل يجدها الإنسان عندما يظله شهر رمضان، حيث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»(9).
فالله تعالى خلاك ونفسك، وتركك وفعلك معها؛ لينظر ماذا تفعل بها؛ فصفَّد لك الشياطين الذين يوسوسون بالمعاصي ويزينونها، وضيَّق عليك عوامل الغواية، ولم يبق إلا أنت ونفسك لتقاوم هواها، وتحاصر طغيانها، فتقودها إلى الخير، أو تتابعها على هواها فتسوقك إلى الشر.
وفي رمضان يتم كسر العادات التي اعتدتها، وهذا يعني إمكانية تغيير النفس التي اعتادت بعض الطباع والأساليب والعادات، قال ابن قيم الجوزية: «لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.
ويكسر الجوع والظمأ من حدِّتها وسورتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والضراب.
وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه؛ فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال.
فإن الصائم يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه.
وذلك حقيقة الصوم.
الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات؛ فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)»(10).
فإذا كان الصيام فرصة حقيقية للتغيير للأفضل، فإن من لا يستفيد من هذه الفرصة يكون خاسرًا خسرانًا حقيقيًّا، قَالَ ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ»(11).
__________________________
(1) أخرجه الترمذي في «سننه»، ح(2459)، وقال: هذا حديث حسن.
(2) أخرجه الطبراني في «الأوسط»، (3/118)، وذكره الألباني في «الصحيحة»، (1/605).
(3) فيض القدير، (2/569).
(4) في «الإحياء»، (3/56): البازي.
(5) ميزان العمل، ص247 باختصار.
(6) الإخوان المسلمون، العدد (8)، السنة الأولى، 26ذو القعدة 1361ه- 5 ديسمبر 1942م، ص3 باختصار.
(7) النكت والعيون، (3/99).
(8) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(11129).
(9) أخرجه البخاري في «صحيحه»، ح(1899).
(10) زاد المعاد، (2/27) باختصار.
(11) أخرجه الترمذي في «سننه»، ح(3545) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(*) باحث في الفكر الإسلامي.