يتوقف حاضر أي أمة ومستقبلها على قدرة أبنائها على إحداث التغيير والانتقال بها من حالة الضعف والتخلف الحضاري لمرحلة الصحوة والنهوض واستعادة أمجاد الماضي وتلبية احتياجات العالم في تنشئة جيل جديد يستطيع الموازنة بين القوة المادية والصحوة الروحية، أو التحلي بالعلم والأخلاق معاً وتصحيح علاقة الأرض بالسماء، وذلك لا يتوفر إلا بعودة الإسلام على يد أبنائه، ولن يتأتى هؤلاء الأبناء إلا ببذل جهد مضاعف في مسألة التربية الشاملة بدءاً بالأسرة وانتهاءً بكل المعنيين بتكوين حضاري يليق بتاريخ المسلمين وحجم الإسلام.
ويقع العبء الأكبر على الأسرة المسلمة في عملية التنشئة الاجتماعية السليمة خاصة في أوقات الفراغ التي وصفها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بأنها نعمة مغبون صاحبها، فيقول فيما رواه البخاري: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ».
وليس كالشباب والنشء يتمتع بالنعمتين معاً، فورة الشباب وقوته وطموحه وتطلعاته، ودخول الإجازة الصيفية التي تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر في معظم بلادنا العربية، وما يمكن أن تحدثه من تغيير عميق وكلي في نفوس الأبناء إذا أحسن توظيفها واستثمارها بشكل علمي منظم ومتكرر مع قدوم كل إجازة.
وبالرغم من التحديات التي تحيط بالعملية التربوية، والمغريات المتعددة حول أبنائنا من تأثير إعلامي كبير، علاوة على تطور وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي التي تستأثر اهتمامهم بشكل خاص فلا تجعلهم خاضعين للمربي وحده، وإنما لجواذب كثيرة بعيدة تماماً عن هويته وثقافته وقيمه المجتمعية تسيطر عليه؛ فإنه يمكن مواجهة تلك التحديات والمعوقات بقليل من الصبر وكثير من الحكمة، وقبل كل هذا تجديد النية لتحويل العملية التربوية لفرد أو مجموعة أفراد، لنية تغيير أمة ووضع حجر أساسها، مستحضرين في ذلك أن الإسلام بدأ بمجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم معدودين على أصابع اليد الواحدة خلف نبيهم عليه صلوات الله وسلامه.
التخطيط الجيد والمشاركة في اتخاذ القرار
قبل البدء بأي عمل يجب أولاً أن نحدد النتائج التي نريد الوصول إليها، ليكون السؤال هنا: ماذا نريد من أبنائنا؟ أو ماذا نريد لهم؟ أو ما النتائج التي أريد الوصول إليها في فترة زمنية محددة؟
وتوضع الأهداف حسب عمر كل ابن، وإمكاناته وقدراته وتوجهاته واحتياجاته، بنين أو بنات، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الشخصية لكل منهم وتوافقها مع المهام التي سوف توكل إليهم، فعلي سبيل المثال توضع التساؤلات بالشكل التالي:
أين هم من القرآن؟ أين أخلاقهم وسلوكياتهم من القيم وتعاليم الإسلام؟ ما مدى قدراتهم البدنية واحتياجاتهم الرياضية والصحية؟ ما المهارات اليدوية أو الذهنية التي يجب تعلمها وإضافتها لمعارفهم ومهاراتهم البدنية واليدوية؟ ما حجم قراءاتهم ومخزونهم المعرفي والثقافي؟ ما الذي يجب إضافته لهم هذا العام؟
هنا يجتمع الوالدان مع الأولاد في جلسات ودية دافئة بعيداً عن العنف وفرض الرأي والاستئثار بالحديث والتوجيه المباشر والأوامر من قبل الوالدين، فالتربية في حد ذاتها عملية حساسة ومعقدة، وأي خطأ في وسائلها قد يؤدي لنتائج مغايرة يدفع ثمنها الجميع، بل وتترك آثاراً تبقى معهم بقية العمر لتنعكس على المجتمع سلباً فيما بعد، فبالحب والتجرد يجب القيام بعملية رفع الواقع لوضع إستراتيجية عملية للأيام المعدودة المقبلة مع مراعاة الفروق الفردية بينهم بالطبع، شرط أن تتناسب الوسائل المطروحة مع حجم التحديات والمغريات المحيطة ومع حجم التطور الهائل بها.
لقد توقفت التربية لزمن طويل على وسائل محددة ولا تخرج عن نطاق الأسرة والمدرسة والمسجد، لتدخل نطاقات تتجاوز الواقع المحلي وجدران البيوت الآمنة ورقابة الأب والمعلم، وقد ألغيت الخصوصية الأسرية تماماً بأطباق الهوائي فوق أسطح المنازل، وأسلاك الإنترنت الممتدة من أقاصي العالم لداخل غرف نوم أبنائنا؛ مما يهدد أي عمل تربوي إن لم يدرك الآباء حجم المأساة المحيطة بهم.
وبالرغم من تلك الخطورة، فإننا لا نستطيع منعها تماماً وإغلاق المجال حولهم، فإننا بذلك نناطح واقعاً لا يمكن تجاوزه، حتى وإن نجحنا في فترة عمرية قد لا تتجاوز السنوات الست الأولى من عمر الأبناء وربما قبل ذلك، وبناء على ذلك يجب علينا مراجعة طريقة التعامل معهم والخروج من دائرة السيطرة الأبوية لدائرة الرعاية والتفهم والصداقة.
الأولويات التربوية أثناء التخطيط للإجازة
يتوقف تحديد الأولويات على عدة عوامل لا يمكن إغفال أحدها:
أولاً: رغبات الأبناء أنفسهم، فتجاوزها سوف يدفعهم للقيام بها بعيداً عن أعين الآباء ومراقبتهم.
ثانياً: مراعاة التنوع فيها لملء الفراغ القائم بأعمال نافعة وفي ذات الوقت لا تؤدي للملل.
ثالثاً: ضرورة الاهتمام بأن تشمل مهارات يدوية، كتعليم مهارة النجارة أو السباكة أو صيانة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية مثلاً للأولاد، وفنون الطبخ والحياكة وأساسيات الأعمال المنزلية للفتيات.
رابعاً: تأهيل من دخل من الأبناء من سن البلوغ أو تجاوزه لكيفية التعامل مع الجنس الآخر في حدود الشرع، ومواجهة المشكلات الخاصة بتلك المرحلة من الآباء أنفسهم وليس المشرفين أو المربين خارج البيت، والاعتراف بالتطورات الخاصة بكل مرحلة ليتسنى للآباء مواجهتها بشكل آمن وصحيح، خاصة في ظل السماوات المفتوحة، فنكرانها والتغاضي عنها يضخمها ويضاعفها كمشكلة «العادة السرية» على سبيل المثال بالنسبة للأولاد، أو مشاهدة المواقع غير الأخلاقية.. وهكذا.
خامساً: وضع نظام تقييم جيد يشمل اليومي والأسبوعي والشهري والكلي يشارك فيه الأبناء لمراجعة أنفسهم، والآباء بمتابعة مستمرة ثم الإثابة أو العقاب النفسي البسيط لشحذ هممهم ودفعهم للتنافس فيما بينهم.
الفرص المتاحة والمعوقات أثناء التخطيط للإجازة
قد يصعب على الكثير من الأسر القيام بتلك العملية بشكل كامل نظراً لظروف عمل كلا الأبوين واضطرارهما لتمضية فترة الإجازة الصيفية بشكل روتيني، واستسلامهما للظروف المحيطة وقهر العمل والانشغال عن شغل وقت الأبناء بتلك الصورة المتكاملة سوف يؤدي لنتائج كارثية تعانيها مجتمعاتنا العربية اليوم على محاور عدة؛ أخلاقية وتعبدية وعقيدية، ولولا ذلك الانشغال المجحف ما رأينا ظاهرة مثل ظاهرة الإلحاد، ولا سمعنا عما يعرف بالتحرش، أو الانتحار، أو المشكلات الأخلاقية الناجمة عن علاقات مواقع التواصل الاجتماعي وما ينتج عنها من فضائح تقع فيها الأسرة كاملة وتفاجأ بها.
وفي أثناء التخطيط يجب كتابة تلك النقاط بشكل مفصل بالمشاركة الأسرية الجماعية، ووضع حلول لمشكلة الانشغال كأن يؤجل كلا الأبوين إجازاتهما السنوية لتتوافق مع إجازات الأبناء أو على الأقل تلتقي في جانب كبير منها، يجب كذلك أن يشمل التخطيط وجود رحلات أسرية مفتوحة يقلل الجميع فيها من استخدام الهواتف النقالة ويتفرغ كلياً للصحبة الدافئة، تشمل تلك الرحلات إلى جانب النزهة زيارات الأماكن التاريخية، ويمكن التنافس كذلك في مسألة القراءة كأن تكون القراءة هذا الأسبوع عن شخصية من الصحابة، أو جزء من السيرة، أو تفسير جزء من القرآن، ثم يتم الاجتماع في نهاية الأسبوع للمناقشة ومكافأة المجتهد، ويكرر هذا الأمر أسبوعياً ليخرج الجميع بحصيلة معرفية جيدة، ويمكن في هذا الخضم التعاون مع مجموعة من الأسر المهتمة أن تتخذ نفس النهج من الأهل والإخوان لتوسيع دائرة النفع وصنع واقع محيط أفضل من الواقع المفروض.
إن الأمر يستحق الاهتمام وبذل الجهد تصحيحاً لمسار الأمة، ولا يقلل أحد من قيمة عمله، فالنهر يبدأ بنقطة مطر أولى، والطريق الطويل يبدأ بخطوة واحدة.