أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إذ نستخدمها للتفاعل مع الأصدقاء وزملاء العمل والمؤثرين ومقدمي المحتوى، فضلاً عن التعبير عن أنفسنا والحصول على المعلومات والترفيه، وبقدر ما تقدم هذه الوسائل من فرص بقدر ما تمثل من تهديدات، خاصة للصحة النفسية، وهو ما يكون مضاعفاً لدى النساء، اللاتي يواجهن سيلاً من «المؤثرات» النصية والبصرية والسمعية تفرض عليهن معايير «عالم متخيل» لا حقيقة له في الواقع.
ومن أبرز التأثيرات المدمرة للصحة النفسية تلك المتعلقة بتشويه مفهوم الجمال لدى المرأة عبر منصات التواصل الاجتماعي، عبر إنشاء ومشاركة وتبادل المحتوى الرقمي، مثل الصور والفيديوهات والنصوص، التي تعرض مجموعة كبيرة ومتنوعة من مظاهر النساء وفق معايير عارضات الأزياء والفنانات، التي يتم تقديمها على أنها معايير الجمال المثالية، وما دونها قبح؛ لذا أطلق علماء النفس على تلك المنصات «عالم الزيف الإلكتروني».
سيل الصور على «إنستجرام» والفيديوهات على «يوتيوب» و«تيك توك»، وغيرها من المنصات، لا يقدم الحياة الواقعية للمرأة، بل حياة المثال المتخيل الذي تكون فيه المرأة شديدة النحافة بالضرورة، تضع المساحيق التجميلية وتبدو دائماً في صورة الشابة، ولو كان عمرها 70 عاماً؛ ما يزيد من أرباح المؤثرات الناشرات لمثل هذا المحتوى، لكنه يؤدي إلى تشكيل انطباعات لدى غيرهن من النساء، تنتهي بمقارنات وانتقادات لذواتهن، وطغيان للشعور بعدم الرضا عن أجسادهن وجمالهن.
فلاتر الجمال تؤثر سلبًا على الصحة العقلية والنفسية
والحقيقة أن كثيرًا من المحتوى الذي نراه على وسائل التواصل الاجتماعي معدَّل أو مغشوش بطرق مختلفة، بل إن كثيراً من مستخدمي هذه الوسائل يمكنهم استخدام «فلاتر الجمال» أو تطبيقات التحرير أو التلاعب بالزوايا أو الإضاءة أو الملابس لإظهار أنفسهم بشكل أفضل أو أكثر جاذبية.
كما يمكن للمستخدمين اختيار نشر صور محددة تبرز نقاط قوتهم وتخفي نقاط ضعفهم، وبعضهم يحذفون أو يحجبون التعليقات السلبية أو الانتقادية على صورهم؛ ما يخلق انطباعًا بأنهم يحظون بإعجاب وإشادة من الآخرين، على غير الواقع.
وقد كشف عديد الباحثين أن الأنشطة المرتبطة بالصور على وسائل التواصل الاجتماعي تمثل مشكلة خاصة تتعلق باعتقاد المستخدمين لأفكار سلبية حول أجسادهم، خاصة النساء منهم، وهو ما أوردته دراسة نشرتها شبكة «BBC Future»، خلصت إلى أن المؤثرين يملؤون خلاصاتنا بفكرة مفادها أن أجسادنا وأشكالنا ليست على المستوى الذي يجب أن تكون عليه.
بل إن بعض الأمراض النفسية أصبحت مرتبطة بمخزون الذاكرة البصرية لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها مرض «تشوه السناب شات» (Snapchat Dysmorphia)، وهي حالة تتمثل في رغبة الأشخاص في تغيير مظهرهم ليشبهوا الفلاتر التي يستخدمونها على تطبيقات التواصل الاجتماعي.
إن فلاتر الجمال وتطبيقات التحرير المرئي لا تخلق فقط مثالًا جماليًا أحاديًا، بل تؤثر سلبًا على صحتنا العقلية بشكل خطير، وهو ما أكد استطلاع آراء لـ 200 طالبة جامعية حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على صورة أجسادهن.
فبحسب الاستطلاع، «عندما ترى النساء أقرانهن يحققن معايير جمال قصوى على وسائل التواصل الاجتماعي، تتأثر صحتهن النفسية وصورة جسدهن سلبًا حيث تتحول هذه المعايير إلى سلوكيات غير صحية، وغالبًا متطرفة، للسيطرة على أوزانهن»، وفقاً لما أورده موقع «آيلاند ويفز نيوز».
مستويات أقل من الرضا عن الذات بسبب مقاطع «تيك توك»
دراسة أخرى نشرتها مجلة «Journal of Eating Disorders»، أجرى فيها باحثون مقارنة بين تأثير مشاهدة صور الذات وصور الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي والثقة بالنفس، ووجدوا أن «مشاهدة صور الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي كانت ذات تأثير سلبي أكبر على الثقة بالنفس من مشاهدة صور الذات»، عزوا ذلك إلى «مقارنة الأشخاص أنفسهم بالآخرين الذين يعتقدون أنهم أكثر جاذبية أو نجاحًا أو سعادة».
وبتحليل آخر لتأثير استخدام فلاتر الجمال بـ«إنستجرام» على صورة الجسم والرضا عن الذات، أوردته دراسة نشرت في مجلة «Body Image»، وجد باحثون أن «السيدات اللاتي استخدمن فلاتر الجمال كان لديهن مستويات أقل من الرضا عن الذات من اللاتي لم يستخدمن الفلاتر»؛ ما يعكس «تأثير التحول من صورة ذاتية طبيعية إلى صورة ذاتية مثالية ذات أثر سلبي على التقدير الذاتي».
أما تأثير استخدام تطبيقات تعديل الصور، مثل «FaceTune»، على صورة الجسم والسلوكيات المتعلقة بالطعام، فيؤدي الاعتياد عليها إلى تعرض المستخدمين لمستويات أعلى من الاضطراب والقلق من المظهر والانغماس في سلوكيات التحكم الزائد في الوزن، وفق دراسة نشرتها مجلة «Computers in Human Behavior».
ويتضاعف مستوى التأثير والاضطراب كلما صغر السن، فالفتيات المراهقات أكثر عرضة بشكل مكثف؛ ما عزته دراسة، نشرتها مجلة «Journal of Adolescent Health»، إلى تعرضهن لضغوط اجتماعية وثقافية أكبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق معايير جمال غير واقعية.
وفي دراسة أخرى نشرتها مجلة «Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking»، قام الباحثون بفحص تأثير استخدام فلاتر الجمال بتطبيق «سناب شات» على صورة الجسم والرغبة في إجراء عمليات تجميل، ووجدوا أن المشاركات اللاتي استخدمن فلاتر الجمال على التطبيق كان لديهن مستويات أعلى من اضطراب صورة الجسم والرغبة في إجراء عمليات تجميل من المشاركات اللاتي لم يستخدمن فلاتر.
فالفلاتر، وغيرها من تقنيات التجميل الزائف، من شأنها زيادة اختلاف مظهر مشاركات الصور بين مظهرهن الحقيقي والمثالي؛ ما يؤدي إلى تراجع الرضا عن جمالهن الواقعي.
إن الهروب من الواقع بمثال مزيف لا يمكن أن يسفر إلا عن تعميق حالة «النفاق الاجتماعي» عبر زيادة الفجوة بين الحقيقة والخيال على شبكات التواصل؛ وهو ما يؤدي تدريجياً إلى مشكلات نفسية، خاصة لدى النساء؛ وهو ما ينبغي مواجهته بتكوين معرفي شرعي – واقعي يقوم على تفكيك المرجعية المعيارية للجمال المتخيل على صور المؤثرات، والتأكيد على نسبية الجمال وعد ارتباطه بمعيارية ثابتة لكل نساء الأرض.
صناع المحتوى وراء تزايد الرغبة في إجراء عمليات تجميل
هذا على مستوى الشكل، وهو ما لا ينبغي الاقتصار عليه قطعاً، لاعتبارات شرعية – إيمانية تعرف الجمال بما هو أشمل، فالحياء جمال، وكرم الأخلاق جمال، والتهذب جمال، وكم من امرأة مطابقة لمعيارية عارضات الأزياء وليس لها من أنواع الجمال سوى الشكل، وبصورته الزائفة المصطنعة!
كما أن قصر ثقافة الاهتمام بالمظهر على النساء بصورة مبالغ فيها يعبر عن ثقافة الحضارة الغربية المهيمنة عالمياً، وليس حضارة الإسلام، التي دفعت الصحابي الجليل عبدالله بن عباس إلى التزين لزوجته، كما يحبها أن تتزين له.
وهنا ينبغي الحذر من مسايرة أنماط السوق المتداولة ومحاولة أسلمتها سطحياً، عبر ترويج ما يسمى بـ«حجاب فاشون»، و«موضات الأزياء الإسلامية».. إلخ، فكلها، وإن كانت تحرص على شكل الزي الملتزم بالشرع، إلا أنها لا تعالج مضمون التعلق بمعيارية جمالية مثالية لدى النساء، وهو ما يعني معالجة العرَض وترسيخ المرض!
المرأة من المروءة، وبمقاييس حضارة مرجعيتها القرآن الكريم، فإن خصالها الخلقية هي معيار جمالها الأول، بينما يأتي حسنها المظهري في المرتبة الثانية، وعلينا أن نربي بناتنا على هذه المفاهيم، وإلا تركناهن فريسة لهيمنة ثقافة «الميديا» الغالبة.