يعد عضو الكنيست عن حزب الليكود عميت هاليفي مشروع قانون يقترح التقسيم المكاني للمسجد الأقصى المبارك، ويقترح تخصيص المساحة من صحن الصخرة وحتى نهاية الحد الشمالي لـ«الأقصى» لليهود؛ ما يعني اقتطاع نحو 70% من «الأقصى»، وهو ما يتطلب بالضرورة -بحسب المشروع- إنهاء الدور الأردني، ودور الأوقاف في «الأقصى».
ولو عدنا إلى منطلقات هذا المشروع، فإن الصهيونية الدينية تنظر للمسجد الأقصى بعين الإحلال، فهي تتطلع إلى إزالته من الوجود بكامل مساحته وتأسيس الهيكل في مكانه، وإذا ما ذكر مصطلح «جبل الهيكل» اليوم فإن العملية العقلية التي يجريها كل متأثر بالدعاية الصهيونية الدينية تجاه «الأقصى» هي الإحلال الذهني، فهو يزيل المسجد الأقصى ويتخيل الهيكل بأسواره القائمة على ذات المساحة، وبرواقه الجنوبي في مكان الجامع القبلي، وبمبنى «قدس الأقداس» المزعوم المربع الشكل في مكان قبة الصخرة.
لطالما كان العائق المركزي أمام الصهيونية الدينية على مدى سنوات صعودها هو كيفية تحويل هذا الإحلال الذهني إلى واقع ملموس، وكيفية تجسير الهوة بين المتخيل الصهيوني والواقع الإسلامي القائم، وكان الجواب على مدى عقودٍ من الزمن هو المرحلية، تقوم هذه المرحلية ببساطة على إعادة تعريف المسجد الأقصى المبارك من مسجدٍ إسلامي خالص إلى مقدس مشترك بين المسلمين واليهود، تمهيداً لإنهاء كل وجود إسلامي فيه فيما بعد.
المدخل الصهيوني النظري لتقسيم «الأقصى»
من الناحية النظرية، ترتكز هذه المرحلية إلى مدخل مفاهيمي أساسي هو التمييز ما بين المسجد الأقصى باعتباره مقتصراً على الجامع القبلي ذي القبة الرصاصية؛ وبالتالي حصر القدسية الإسلامية فيه، وما بين مفهوم »الحرم الشريف» الذي يضم بقية المساحة المسورة، بوصفها مساحة مختلفة عن المسجد في المفهوم والقيمة الدينية، وبالتالي الدفع باتجاه إعادة تعريف هذا «الحرم الشريف» باعتباره «مجمعاً مقدساً يتسع لكل الديانات»، وبأن الإصرار الإسلامي على الهيمنة الكاملة عليه رغم مساحته الشاسعة هو «إقصاء»، وبأن المطلب الصهيوني يتلخص في الحصول على جزء من هذه المساحة المسورة الكبيرة البالغة 144 ألف متر مربع، وبذلك تلبس المقولة الإحلالية لباس الضحية في المقدس كما لبسته في احتلالها لأرض فلسطين وفي إبادة شعبها وطرده.
هذا المدخل المفاهيمي الصهيوني لتقسيم المسجد الأقصى وجد طريقه إلى «صفقة القرن» الأمريكية التي طرحها الرئيس الأسبق دونالد ترمب كتصور لتصفية قضية فلسطين من بوابة القدس، وإلى «اتفاقات أبراهام» التي ميزت في نصها بين المسجد الأقصى ومقدسات القدس الأخرى التي يجب أن تبقى مفتوحة للمصلين المسالمين من كل الديانات، ويجد طريقه إلى بعض من يوصفون بالمثقفين من نخب التطبيع، بمحاولتهم المستمرة لإعادة تعريف المسجد الأقصى ومكانته، وإلى وسائل إعلام غربية ناطقة بالعربية أخذت تحاول تحوير اسم المسجد الأقصى إلى «مجمع الأقصى».
التطبيقات العملية لمشروع تقسيم «الأقصى»
من الناحية التطبيقية، تبلورت هذه المرحلية في 3 مشاريع حتى الآن، هي:
الأول: التقسيم الزماني: الذي يقوم على الاستفادة من الحضور الكثيف لشرطة الاحتلال على أبواب المسجد الأقصى وداخله للحد من دخول المسلمين في أوقات محددة وفرض اقتحام المستوطنين الصهاينة، وقد بدأ عام 2003 بالاقتحامات الفردية، ثم في عام 2006 بالاقتحامات الجماعية، وتطور في عام 2008 إلى الإعلان عن أوقات محددة للاقتحام في وقت الضحى وبعد صلاة الظهر، ومن ثم توسيعها بالتدريج لتصبح 5 ساعات ونصف ساعة يومياً بعد أن كانت 4 في بداية فرضها، في عام 2012 أفصحت الصهيونية الدينية عن سقفها تجاه ذلك التقسيم بفكرة التقاسم التام أو المتساوي، بمنع المسلمين من دخول المسجد في أوقات اليهود، وتوزيع أوقات اليوم والأعياد السنوية بالتساوي بين الطرفين، وهو ما أفشلته هبة القدس عام 2015، ثم هبة باب الأسباط عام 2017.
الثاني: التقسيم المكاني: وكان الإفصاح الأول عنه في عام 2004 في المسودة النهائية لمخطط القدس الهيكلي عام 2020، التي زعمت أن المقدس إسلامياً هو الجامع القبلي وقبة الصخرة فقط، فيما اعتبرت بقية مساحة «الأقصى» مساحة تاريخية مكتظة بالزوار، فحاولت أن تنفي عنها صفة القدسية الدينية تمهيداً لوضعها بتصرف بلدية الاحتلال.
وبحلول عام 2008 كان واضحاً أن الاحتلال يضع الجهة الجنوبية الغربية من ساحة «الأقصى» الواقعة ما بين باب المغاربة والجامع القبلي تحت مجهر التقسيم، وهو ما أفشله الرباط المؤسسي ومشروع مصاطب العلم الذي اتخذ من مصطبة الصنوبر مقراً له، فبات المقتحمون يمرون سريعاً من هذه الساحة؛ لتتركز الأنظار نحو الجهة الشرقية من «الأقصى» ما بين عامي 2013 و2019، وهو ما كانت هبة باب الرحمة في عام 2019 له بالمرصاد، فانتهت إلى استعادة باب الرحمة إلى أصله جزءاً لا يتجزأ من «الأقصى».
الثالث: التأسيس المعنوي للهيكل: ويمضي في خطين متوازيين؛ الأول: نقل كل الطقوس التوراتية التي تجري في كنس العالم إلى المسجد الأقصى بوصفه مركزاً دينياً يهودياً مزعوماً، والثاني: إحياء ما تزعم التوراة أنها طقوس مختصة بالهيكل مثل طبقة الكهنة بلباسها الأبيض، والقرابين الحيوانية والنباتية، والانبطاح على الوجه في المسجد الأقصى تحقيقاً لفكرة «السجود الملحمي»، مع التأكيد على اقتحام «الأقصى» عندما تتقاطع الأعياد اليهودية أو القومية الصهيونية مع الأعياد الإسلامية، وهو ما انتهى إلى ملاحم اقتحام «الأقصى» في عام 2019، ثم معركة «سيف القدس» في 28 رمضان في صيف عام 2021 وأخيراً «معركة الاعتكاف» في عام 2023.