شهد العقد الأخير من القرن الماضي تحولات ضخمة في مجال الاتصال وتكنولوجيا وسائل الإعلام؛ مما مهد الطريق نحو ظهور تجليات عدة للتفاعل المباشر والمستمر فيما بين عناصر العمليات الاتصالية المختلفة، وجعل انتقال المعلومات والبيانات أيسر وأسرع من أي وقت مضى.
وقد بدا للوهلة الأولى بأن تلك الثورة التكنولوجية الضخمة أداة فاعلة وقوية في مجال الدعوة الإسلامية، إذ يمكن عبر توظيفها نشر القيم الإسلامية السمحاء وتوعية المسلمين بدينهم وتصحيح المفاهيم وإجلاء الحقائق وبث الوعظ بطرق جديدة تضمن التفاعل والتواصل فيما بين الداعية والجمهور، وتفتح آفاق الفهم والعمق على مصراعيهما.
وقد أنتجت تلك الثورة التكنولوجية ظاهرة «الدعاة الجُدد»؛ إذ مثلت شاشات الفضائيات ساحة رئيسة لتقديم دعوة إسلامية بروح عصرية وطرق مستحدثة كُلياً، فتميز هؤلاء الدعاة الجُدد بعدد من الخصائص التي عكست مدى اختلافهم عن الدعاة الكلاسيكيين، فمن حيث المظهر والزي اختار هؤلاء الدعاة مظهراً عصرياً شبابياً بعيداً عن الشكل التقليدي للداعية المُعمم، واستخدموا لغة سهلة وبسيطة لبث محتواهم الدعوي لأكبر عدد ممكن من الناس بعيداً عن المصطلحات المتخصصة والمفاهيم المُعقدة، وجمع هؤلاء فيما بين الخطاب الإسلامي التقليدي وخطاب التنمية البشرية الذي يحض على العمل والتفاؤل والإقبال على الحياة والرقائق وفضائل الأخلاق، وحظوا نتيجة لذلك بشهرة واسعة جعلت منهم نجوم مجتمع، فلم يعد الداعية عالماً زاهداً يخاطب الناس من برجه العاجي ومكانته العالية وهيبته الطاغية، بل هو واحد من هؤلاء الناس من نفس فئتهم العمرية ويرتدي رداءهم ويتحدث بلغتهم.
فهل كان ذلك نصراً للدعوة الإسلامية؟
إن الإجابة عن ذلك التساؤل تستدعي التعمق أكثر بشأن تاريخ الخطاب الإسلامي والعلاقة فيما بين الدعاة والفقهاء من ناحية، وجمهور المسلمين من ناحية أخرى، إذ فرضت طبيعة العصور ما قبل التكنولوجية الحديثة على الفقهاء والدعاة أدوات غير ذات انتشار كبير فيما بين عموم المسلمين، فبثوا أفكارهم إما عبر الكتب التي تطلبت إلماماً بالقراءة والكتابة وحسن الثقافة وسعة الاطلاع، أو عبر التواصل المباشر الفردي فيما بين الفقيه والسائل أو المستفتي، وبين الفقيه وطلاب العلم الذين يتتلمذون على يديه.
تلك الظروف جعلت عملية الاتصال فيما بين المسلم العادي والفقيه أقل تفاعلاً وتكرارية، فلم يتوفر الوقت ولا المساحة –مثلما يحدث الآن– لأي إنسان اتفق أن يلتقي بالفقيه بشكل دوري ودائم ليسأل ما يحلو له من الأسئلة، ولم يتلق الفقهاء ردود الفعل حول آرائهم وفتاواهم بشكل آني، وقد حظوا نتيجة لذلك بالوقت الكافي لبلورة دعوتهم الإسلامية والخوض العلمي المتعمق المتفقه في كافة المسائل والأمور، وأسعفتهم الظروف لصياغة رؤى فقهية وإسهامات دينية في سائر القضايا التي عايشوها في عصورهم.
أما الآن، فالأمر قد اختلف إلى حد بعيد، فالفقيه والداعية في اتصال دائم ومستمر بجمهوره، وهو في مرمى ردود الفعل الآنية أو اللحظية بفضل وسائل الاتصال الحديثة، فلا يكاد يدلي برأي حتى ينهال عليه وابل من ردود الفعل الغاضبة أو المؤيدة، بما يضع الداعية في حرج من الخوض في المسائل التي قد تغضب الجمهور أو لا تتوافق مع الميول العامة للمتلقين، وإن كانت من صميم الدعوة الإسلامية ومن قضاياها الجوهرية، وأصبح لأي إنسان أن يسأل أي سؤال –أو أسئلة عدة– للفقيه والداعية لكي يجيب عنها، حتى لو كانت لمشكلات أو قضايا تخيلية لم تحدث أو مجرد تساؤلات نظرية تدور في ذهن السائل وحده وليس لها أي أساس من الواقع، وعلى الداعية أن يجيب.
ماذا فعلت «الميديا» بالدعوة؟
إن تطور «الميديا» قد ساهم بدور كبير وفاعل في تطوير الدعوة الإسلامية وتوسيع نطاق انتشارها وتعميق مدى تأثيرها، لكن «الميديا» كأداة لم تكن بذلك القدر من الحياد والموضوعية، فهي لم تكن مجرد وعاء للدعوة، بل تولت «الميديا» أمر الدعوة باعتبارها مهيمناً عليها وموجهاً لها، فـ«الميديا» بالأساس كيان موجه يستهدف فئات معينة ويبث رسائل مؤدلجة تحمل في طياتها أجندة الجهة الإعلامية التي تتبناها وتدير عملية الاتصال بالأساس.
من هنا، فقد طبعت «الميديا» الدعوة بعدد من الصفات التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الدعوة الإسلامية المعاصرة، وأخضعت الدعاة لأجنداتها بتنوعها واختلاف مشاربها، فكل قناة فضائية أو جريدة أو إذاعة تضع أسس الدعوة الإسلامية المبثوثة عبرها طبقاً لما تستهدفه من غايات ومآرب.
تسليع الدعوة
ولما كانت «الميديا» بالأساس صناعة تجارية تستهدف الربح المادي في المقام الأول، فقد تم تسليع الدعوة لتصبح تجارة، وأصبح الخطاب الديني منتجاً استهلاكياً يتم قولبته طبقاً لمزاج وميول الجمهور المُستهدف، وأصبحت ثقافته المخالفة والمبالغة والاهتمام بقضايا شاذة غير مطروقة وسائل متنوعة لجذب الجمهور وزيادة التفاعل الإعلامي ومن ثم تحقيق المكاسب، ولم تعد الدعوة غاية في نفسها أو رسالة روحانية مطلوبة لذاتها، وإنما وسيلة تجاريه بالأساس.
ومن ناحية ثانية، أثر التطور التكنولوجي الكبير والمتسارع على الدعوة بظهور ثورة المعلومات وفوضى المضمون، فإغراق الجمهور بكم ضخم من المعلومات الدينية والخطابات الدعوية قد عزز تشتت المسلمين عن فهم دينهم نتيجة تنوع وكثافة المحتوى المطروح أمامهم، واختلاف المنابر وكثرة الدعاة ومن ثم ضياع الحقائق وشيوع اللغط، فلم يعد المتلقي قادراً على تمييز السمين من الغث نتيجة فوضى وفائض الخطابات الموجهة إليه.
وقد عزز من تلك الفوضى تصدي كثير من الدعاة إلى توجيه الخطاب الديني دون خلفية علمية حقيقية عبر القنوات الرسمية للتعليم الفقهي والمؤسسات المعترف بها لتخريج الدعاة، حيث غاب التدقيق والتمحيص عن اختيار الدعاة لدى القنوات والإذاعات والمجلات، وأصبح المظهر أهم من المحتوى، فتضاربت المعلومات وكثرت الأغلاط، إذ لم يعد الهدف استجلاء الحقائق بقدر جذب الإعلانات وإثارة الجدل.
وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتسهم بدور سلبي آخر في الخطاب الدعوي؛ إذ أصبح الخطاب الديني الموجه لجمهور «السوشيال ميديا» ذا خصائص جديدة تتسم بالسطحية والاختصار والاختزال، حيث لم يعد هذا الجمهور يحتمل الخطابات المطولة والشروح الفقهية المتعمقة، بل أصبح المطلوب خطاباً دينياً معلباً ومختصراً ويناقش قضايا بعينها هي التي تهم هذا الجمهور، حيث فُرض على الخطاب الدعوي شكل جديد يلائم منصات التواصل وجمهورها الذي يهتم بالقشور ويسعى للتبسيط المخل الذي لا يجلي حقيقة ولا يعمق فهماً ولا يخلق وعياً.
ولا فكاك من تلك الآثار السلبية التي ألقت بظلالها على الخطاب الدعوي إلا عبر دراسة حقيقية لتلك الآثار لفهم طبيعة وسائل الإعلام المختلفة وتطوير خطاب دعوي جديد يتولى أمره فقهاء متخصصون وعلماء متبحرون يفيدون من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة ويتلافون مضارها المتنوعة، مع إحكام الرقابة على المتصدرين للخطاب الدعوي للحيلولة دون فوضى الآراء والفتاوى وإجلاء الحقائق وتعميق الفهم والوعي.