سمعت لأول مرة عن حملة الأطفال الصليبية من البابا شنودة في ندوة «800 عام حطين صلاح الدين والعمل العربي الموحد»، التي عقدت بالقاهرة في يونيو 1987؛ حيث نفى البابا علاقة المسيحية بالحملات الصليبية، وقال: إنها حملات استعمارية هدفها احتلال الأراضي مثل الحملات الاستعمارية الحديثة، وإنه لا علاقة للمسيحيين المصريين بهذه الحملة ما عدا حملة الأطفال.
هناك الكثير من الأحداث التي يحاول المؤرخون الغربيون إخفاءها وتجاهلها في الحروب الصليبية، حيث قامت الدول الأوروبية بالتخلص من الكثير من الأدب والشعر الذي أنتجه الصليبيون، الذي يصف حروبهم مع المسلمين.. لماذا؟!
إن ذلك يوضح أن كتابة التاريخ قد خضعت لعوامل سياسية، وأن التاريخ يستخدم في إدارة الصراع؛ ولذلك يتم التعتيم على الكثير من الأحداث.
ولأن تجربة الحروب الصليبية يمكن أن تساهم في تطوير علم استشراف المستقبل، وإضاءة الطريق أمام الأمة الإسلامية؛ لاستلهام التجربة في كفاحها لتحقيق الحرية والتحرير، فإن هناك حاجة لدراسة تاريخ الحروب الصليبية، والبحث في المصادر الغربية، واكتشاف ما يريد الغرب إخفاءه!
صليبية الأطفال وانشقاق البحر!
بدأت حملة الأطفال عندما قام طفل فرنسي اسمه ستيفن كان يعمل راعياً للأغنام بالادعاء أنه رأى المسيح في المنام، وأنه اختاره لقيادة حملة من الأطفال الأبرياء لاسترداد القدس؛ بعد أن فشل الملوك في استعادتها بسبب ذنوبهم.
انتشرت دعوة ذلك الطفل في أوروبا، ونجح في جذب الآلاف من الأطفال من الأقاليم الفرنسية، ثم قاد ستيفن حملته إلى مرسيليا ووقف أمام البحر قائلاً: إن البحر سينشق لهم كما انشق لموسى، لكن البحر لم ينشق كما ادعى، بل جاءت مجموعة من السفن أعدتها الكنيسة فحملت هؤلاء الأطفال.
ويبدو أن اللعبة كانت مغرية ومثيرة للعواطف والمشاعر الدينية، لذلك قام طفل آخر في ألمانيا اسمه نيقولا بتكرار الدعوة إلى القيام بحملة أطفال جديدة تنطلق خلف حملة ستيفن للاستيلاء على القدس وتنصير المسلمين.
ثم سار نيقولا بحملته من الأطفال إلى إيطاليا، لكن الكثير من هؤلاء الأطفال ماتوا جوعاً وعطشاً في جبال الألب، ولم يتمكنوا من تحمل قسوة البرد، ثم حملت السفن التي أعدتها الكنيسة من تبقى منهم، لكن ليس هناك معلومات مؤكدة توضح ما حدث لهم، فهناك بعض المصادر التي تشير إلى أن تلك السفن غرقت في البحر بما تحمله من أطفال.
وهناك روايات أخرى تشير إلى أن التجار الإيطاليين قاموا ببيع هؤلاء الأطفال في أسواق النخاسة، وحققوا من وراء ذلك أرباحاً كبيرة، فهل يمكن أن يساهم ذلك في تفسير إخفاء الغرب للقصة وعدم الحديث عنها؟!
لكن من هم هؤلاء الأطفال؟! معظم هؤلاء كانوا من الفلاحين الفقراء الذين يعيشون حياة تقترب من العبودية، ويعملون في أراضي الإقطاعيين بالسخرة، فهل جذبتهم دعوة ستيفن الراعي للتخلص من فقرهم حتى بالموت، لذلك صدقوا دعوة ستيفن بأنه رسول الرب، وأنه سينجح في تحقيق ما عجز عنه الأمراء والملوك؟!
إن ذلك لا يشكل أيضاً تفسيراً مقنعاً بالرغم من أن هناك من يتبناه من المؤرخين الذين يعتمدون على التفسير المادي للتاريخ.
نتيجة لحملات الدعاية
لكننا نقدم تفسيراً جديداً للقصة؛ هو أن حملات الدعاية التي شنتها الكنيسة تمكنت من نشر التدين في أوروبا، بحيث أصبح الدين هو المحرك والدافع للسلوك الإنساني؛ ابتداء من خضوع الفلاحين الفقراء للإقطاعيين، وقبول العمل بالسخرة في أرضهم، وإنفاق كل ما يملكون للحصول على صكوك الغفران من القساوسة حتى الحلم بانشقاق البحر للأطفال الذاهبين في رحلتهم للاستيلاء على القدس.
لذلك، فإن اللجوء إلى الرؤية المادية والبحث عن العوامل الاقتصادية والسياسية لا يتناسب مع طبيعة ذلك العصر، وقد يكون لتلك العوامل تأثير لكن يظل الدين هو العامل الحاسم؛ فالكنيسة كانت تمارس دوراً مهماً في إدارة حياة الناس، والسيطرة على مشاعرهم، ولا يمكن أن ينجح الطفل ستيفن في تجنيد 30 ألفاً من الأطفال لأنهم يريدون التحرر من العبودية للإقطاع.
لذلك، فإن هؤلاء الأطفال تعرضوا لدعاية دينية نجحت في انتزاع استجابة عاطفية؛ تماماً كما نجحت في انتزاعها من آلاف الفرسان طوال قرنين من الزمان كان فيها الدين هو المحرك الرئيس للسلوك الإنساني.
أين دور الكنيسة في حملة الأطفال؟!
هل يمكن أن تكون حملة صليبية الأطفال قد تمت بعيداً عن تخطيط الكنيسة، أم أنها كانت مجرد حيلة لجأ إليها البابا أنوسنت الثالث في مواجهة الملوك والأمراء الذين خابت آمالهم نتيجة فشل الحملات الصليبية الأربع السابقة، وأن ستيفن لم يكن سوى أداة استخدامها البابا لإحراج هؤلاء الملوك والأمراء، ووسيلة للدعاية والإثارة العاطفية والدينية؟!
إن تاريخ الحملات الصليبية في أوروبا يقوم على الدعاية، وبالتأكيد فإن القصة مثيرة يمكن أن تحرك مشاعر الفرسان والنبلاء والأمراء والملوك، فإن كنتم قد عجزتم عن الاستيلاء على القدس، فإن ستيفن الراعي سوف يقوم بالمهمة ويقود الأطفال للاستيلاء عليها وتنصير المسلمين.
لكن من الواضح أن النبلاء والأمراء والملوك تركوا هؤلاء الأطفال لمصيرهم، وقام التجار الإيطاليون ببيعهم في أسواق النخاسة، بعد أن مات الكثير منهم جوعاً وعطشاً وبرداً وغرقاً، وأن حيلة البابا لم تقنع الملوك والأمراء؛ الذين كانوا يعيشون في حالة صدمة نتيجة الهزائم التي تعرض لها الصليبيون.
يؤكد صحة ذلك التفسير أن الكنيسة الألمانية حاولت المشاركة في استخدام تلك الحيلة للدعاية، فاختارت نيقولا ليقود حملة أخرى من الأطفال الألمان حتى لا ينفرد أطفال فرنسا بمجد الاستيلاء على القدس وتنصير المسلمين طبقاً لرؤية الكنيسة.
لكن، هل يعني ذلك نهاية التحالف بين الكنيسة والملوك والإقطاع في أوروبا؟ قد تكون تلك الحملة هي بداية الصراع الذي انتهى بالثورة البرجوازية، ورفع شعار «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» الذي انتشر خلال الثورة الفرنسية.
في ضوء ذلك، يمكن أن نفهم لماذا يتم إخفاء تلك القصة المثيرة، وندرة المعلومات خاصة عن مصير الأطفال الذين استخدمتهم الكنيسة في حملاتها الدعائية التي استهدفت إثارة أوروبا لشن حملات صليبية جديدة؟!
هناك سؤال مهم يمكن أن يساهم في زيادة الأمر وضوحاً؛ هو أن الصحافة ووسائل الإعلام الغربية تبحث عن الإثارة والقصص الطريفة والغريبة؛ فأي إثارة أكبر من قصة تلك الحملة التي أدت إلى التضحية بأرواح أكثر من 30 ألفاً من الأطفال؟ فلماذا لم تتحدث وسائل الإعلام الغربية عن هذه القصة؟! هل يرجع ذلك إلى إدراك خطورة القصة وأنها تشكل عاراً لأوروبا، وتوضح خطورة الدعاية التي استخدمتها الكنيسة في تعبئة الجماهير الغربية، وأن هؤلاء الأطفال كانوا ضحية لدعاية الكنيسة؟
إن هذا يوضح أهمية إعادة دراسة تاريخ الحروب الصليبية، وتفسير أحداثها، فهذا التاريخ يشكل أساساً لبناء المستقبل.